يمينك، وعن شمالك، وبين يديك ومن خلفك) وما أروع موقف أولئك الأبطال المساعير من جنود تبوك، وهم يتنافسون في البذل لتجهيز المعسرين، فجهز عثمان ثلاثمائة بعير وخمسين فرسا، وأحضر عشرة آلاف دينار وصبها بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل النبي يقلبها ويقول:"اللهم إرض عن عثمان فإني عنه راض، ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم"، وجاء أبو بكر رضي الله عنه بكل ماله، وهو أربعة آلاف درهم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:(هل أبقيت لأهلك شيئا؟ فقال: أبقيت لهم الله ورسوله، وجاء عمر بنصف ماله، وجاء عبد الرحمن ابن عوف بمائة أوقية، وجاء العباس وطلحة بمقدار عظيم من المال، وأحضر عاصم بن عدي سبعين وسقا من تمر، وتبرع النساء بكل ما قدرن عليه من حليهن، فاجتمع لهؤلاء الأبطال الجهاد بالنفس والجهاد بالمال، لولا أن العدو لاذ بالفرار {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ}.
وما أعظم مشهد ذلك البطل المغوار (أبي لبابة بن عبد المنذر) الذي وجه به الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة بطلب منهم لما نقضوا العهد إثر غزوة الأحزاب، ليستشيروه في أمرهم، فلما أتاهم واستقبله النساء والصبيان بالبكاء رق لهم، فقالوا له: أترى أن ننزل على حكم محمد؟ قال: نعم إنه الذبح، وأشار بيده إلى حلقه، ثم أدرك من ساعته أنه عصى الله والرسول، فندم وربط نفسه بسارية في المسجد وقال: لا أبرح مكاني حتى يتوب الله علي مما صنعت، وبقي ست ليال على تلك الحال حتى نزل فيه قوله تعالى:{وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، فأسرع الناس إليه يبشرونه بأن الله قبل توبته، ولما أرادوا حله من وثاقه أبى وقال:(لا والله، حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يطلقني بيده)، فلما مر صلى الله عليه وسلم إلى صلاة الصبح خارجا أطلقه).
بمثل هذه الطاعة أنتصر الإسلام وأنتشرت راياته في كل مكان. فالطاعة- إذن- إحدى الدعائم القوية في نجاح الدعوات، وبناء النهضات، وما أقفر منها مجتمع إلا حلت به الويلات وتحالفت عليه الأزمات.
وإن كل من يدخل الجنة إنما يدخلها تحت لواء الطاعة والإذعان، وكل من يدخل النار إنما يدخلها تحت لواء العصيان، الذي يحمله الشيطان.