وهل الحياة إلا مزرعة، نباتها النسل؟ وأنت إن عشت، عشت مكافحة لتنمية هذا النبات، وتوفير الراحة للبنين والبنات، وإن مت، مت شهيدة هذا الكفاح، مرة أثناء خروج النبات، ومرة قبله، ومرة بعده، ولها الله هذه الأم التي تلد ثلاثة أبناء في وقت واحد، إنني لأتصورها ترى الموت شاخصا يتراءى لنا ظرها في كل لحظة، وتود لو يريحها الموت مما تعاني من آلام تذيب الصخر، ولكنها تعيش لتكون وقاء وغذاء وفداء لأطفالها الثلاثة، ثم أتصورها بعد ذلك تسهر الليل كله ولا تذوق للنوم طعما، وأنى لها بالنوم وكلما أمسك طفل عن البكاء أو الرضاع قام مقامه اثنان في مرة واحدة؟ وأتصورها في النهار تنفق بياضه في غسل ثياب أبنائها وتجفيفها، وفي إسكاتهم إذا بكوا وفي تغذيتهم إذا جاعوا، زيادة على عملها الراتب في البيت.
فأي كفاح في معترك الحياة كهذا الكفاع، الذي أناطه الله بالأم؟ فلا عجب أن يخولها الإسلام، حق حضانة الولد، اعترافا بمجهوداتها واطمئنانا إلى كفاءتها، وثقة بصدق عاطفتها، ولله ما أقوى ذلك الدفاع الذي دافعت به أم عن حقها في الحضانة فيما وعى لنا التاريخ من قصة النزاع الذي وقع بين أبي الأسود الدؤلي وبين زوجته على ابن منهما كل منهما يدعيه، فقالت المرأة: أنا أحق به لأني حملته تسعة أشهر ثم أرضعته إلى أن ترعرع بين أحضاني كما ترى مراهقا، فقال أبو الأسود: حملته قبل أن تحمليه، ووضعته قبل أن تضعيه فإن كان لك بعض الحق، فلي الحق كله أو جله، فقال القاضي: أجيبي أيتها المرأة عن دفاع زوجك فقالت لئن حملته خفا لقد حملته ثقلا، ولئن وضعته شهوة، فقد وضعته كرها، فنظر القاضي إلى أبي الأسود وقال له: أدفع إلى المرأة غلامها ودعني من سجعك.
ولا غضاضة فإذا كان الجزاء على حسب الجهد فالإسلام قد رعى للأم جهودها العظيمة في دنيا البيت والأسرة وجازاها بحسبها، فقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:(جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، من أحق بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال أمك قال: ثم من؟ قال: أمك قال ثم من؟ قال: أبيوك).
والحديث يوافق في الدعوة إلى حسن مصاحبة الأم قول الله عز وجل: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا