للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الظلام من جنباته إن جلال الإيمان وجمال الخلق ليتنازعان الظهور ويتسابقان إلى البروز من خلال هذه القصة التي ترسم للإيمان الكامل والخلق النبيل، صورة واحدة رائعة، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: "حسن الخلق من الإيمان"، فإن الخلق الرصين الثابت هو الذي يرتكز على صخرة الإيمان الراسية الراسخة التي لا تقلقلها عوادي الزمان ولا تزلزلها عواصف الخطوب، ومن هنا نرى الكثير من ضعفاء الإيمان لا يثبتون على خلق، كما لا يصبرون على عبادة، فكلما ابتلوا بشيء من مكاره دنياهم نكصوا على أعقابهم وقطعوا صلتهم بإخوانهم ونقضوا عهدهم مع ربهم، كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}.

أما الذين اكتمل إيمانهم واتسع بقوة اتصالهم بالله أفقهم، وصلب بشدة إقبالهم على عبادة الله عودهم، فهم أثبت الناس على خلق وأقواهم اضطلاعا بمبدإ، وأعظمهم صبرا على ما يبتليهم به ربهم من ضروب الابتلاء وصنوف الامتحان، ليعدهم بذلك لأن يكونوا أقدر على الاضطلاع بمهمتهم العظمى في الحياة، وأداء رسالتهم الكبرى إلى العالم، وقد أدركوا موضع الحكمة من هذا الابتلاء، فازدادوا حماسا لعقيدتهم وثباتا على مبدإهم، وقوة اندفاع في كفاحهم حتى بلغوا الغاية المطلوبة وجنوا الثمرة المرجوة التي يشير إليها قوله تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} وقوله: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ}.

فإن أمثال هذه النفوس الربانية لا تستميلها رياح المطامع والرغائب ولا تعصف بها عواصف الخطوب والنوائب، بل لا يزيدها ابتلاء ربها إلا قوة في إيمانها وتمسكا بدينها وثقة بربها، ومن هنا كانت تتجلى خلال الصبر والشجاعة والزهد في متاع الدنيا، في تلك النفوس الكريمة ذات المعادن الكريمة في أروع صورها وأرفع درجاتها، وكانت ترى في البوح بحاجاتها إلى إخوانها تشكيا من خالقها وتسخطا على ربها، كما في قصه هذين الزوجين الكريمين وكما في حديث الأحنف بن قيس مع عمه إذ قال: "شكوت إلى عمي وجعا في بطني، فنهرني ثم قال: يا ابن أخي لا تشك إلى أحد ما نزل بك، فإنما الناس رجلان: صديق تسوءه، أو عدو تسره، يا ابن أخي: لا تشك

<<  <   >  >>