آلهتهم وعباداتهم الزائفة، من هذه الدعوة من سهام نافذة فذهبوا إلى عمه أبي طالب فقالوا له: يا أبا طالب، إن ابن أخيك قد سب آلهتنا، وعاب ديننا، وسفه أحلامنا، وضلل آباءنا، فإما أن تكفه عنا وإما أن تخلي بيننا وبينه، فإنك على ما نحن عليه، من خلافه، فقال لهم أبو طالب قولا رقيقا وودهم ودا جميلا ثم عادوا إليه مرة أخرى، فقالوا له: يا أبا طالب، إن لك سنا وشرفا ومنزلة فينا، وإنا قد استنهيناك ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا وتسفيه أحلامنا وعيب آلهتنا، حتى تكفه عنا أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين، فاشتد الأمر على أبي طالب، ولقى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: يا ابن أخي إن قومك لد جاءوني فقالوا لي كذا وكذا- ما كانوا قالوه له- فأبق علي وعلى نفسك، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق، فماذا كان منه صلى الله عليه وسلم أيسلم في دعوته وينفض يده مما وكل إليه، كما يفعل ذلك ضعفاء الإيمان وجبناء القلوب في مثل هذه الظروف؟ كلا، بل وقف وقفة المؤمن بربه الواثق بدعوته، وكأنه يسمع هتاف القرآن في أذنه يقول له:{فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وقال كلمته العظيمة الخالدة التي سارت مثلا أعلى في الثبات على المبدإ: "والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر، حتى يظهره الله أو أهلك فيه، ما تركته" ثم قام وذهب فقال له أبو طالب: أقبل يا ابن أخي، فأقبل صلى الله عليه وسلم فقال له: إذهب وقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء أبدا.
وهكذا العظماء يلحقهم من الأذى ما تنوء به الجبال، ولكن قوة عقيدتهم وصلابة عزيمتهم واطمئنانهم إلى أن الله ناصرهم وأن العاقبة لهم، كل ذلك يهون عليهم ما يقف في طريقهم ويصادفهم في سيرهم من عقبات ومكاره وأتعاب، فيمضون مصممين حتى يصلوا إلى الغاية، ويجنوا ثمر النصر في النهاية.
فلا يضق قادتنا ودعاتنا ذرعا إذا لاقوا ما لاقى أسلافهم من رهق وعنت، فتلك سنة الله في الأولين والآخرين، وليعتقدوا بأن الله سينصرهم- إن كانوا محقين- ولو بعد حين، ولو من غير المسلمين، كما نصر الله نبيه بعمه أبي طالب، ولكن الذي يمضني ويؤلمني أنه يوجد اليوم كثير من المسلمين يمثلون دور أبي طالب: يكتبون ويخطبون داعين إلى تعاليم الاسلام، وهم أبعد ما يكون عن تعاليم الإسلام فصدق عليهم بذلك قوله تعالى:{وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} الذي نزل في أبي طالب!