كتاب أعلام تمرسوا بحرب الأقلام، لهذا لم أكتف- في هذا الموضوع- بما كتبت في الفصل السابق، وفي فصول أخرى سبقته ولأمر ما سميت الدعوة إلى الله تذكيرا والقائم بها مذكرا، فالأمر الهام، لا يكتفي فيه باليسير من الكلام، بل لا بد فيه من الإلمام، بعد الإلمام، وتكرار الدعوة إلى شيء تذكير به، (وآفة العلم النسيان) كما يقول- عليه الصلاة والسلام- وقبل كل شيء يجب أن نعلم أن لكل ما يسر ثمنا مما يضر، وثمن بلوغ المكارم، تحمل المكاره وما أبلغ قوله صلى الله عليه وسلم:"ليأخذ العبد من نفسه، لنفسه"، وهل تنال الجنة التي {فِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} إلا بمخالفة ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين مما حرمه الله على الأنفس والأعين؟ وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم:"حفت الجنة بالمكاره"، فإن لم يأخذ العبد من نفسه لنفسه، ندم في غده على تفريطه في أمسه:
وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها ... فليس إلى حسن الثناء سبيل
وعلى هذا يجىء قول المتنبي:
[لولا المشقة ساد الناس كلهم ... الجود يفقر، والإقدام قتال]
وقول الآخر:
ومن يخطب الحسناء يصبر على البذل
وبهذا- لا بغيره- يدفع جهل الجاهل،،إساءة المسيء، وإنما أوردنا كل هذه الأمثلة لئلا يقول ضعاف النفوس وأسرى النزوات: أن تحمل الإساءة شيء يشق على النفس وينبو عن الطبع، وما كان فضل الحلم على غيره- حتى قيل-: الحلم سيد الأخلاق- إلا لأن مقاومة الطبع تبدو فيه أكثر من سائر الأخلاق، وعلى هذا الأساس جاء قوله:- عليه الصلاة والسلام-: (ما من جرعة يتجرعها العبد خير له وأعظم أجرا من جرعة غيظ في الله"، وروى أنس رضي الله عنه أن رجلا قال: يا رسول الله ما أشد من كل شيء؟ قال: غضب الله، قال: فما ينجي من غضب الله! قال: أن لا تغضب" وليس الغضب الذي ينهي عنه رسول الله، هو الغضب لله، عندما تنتهك حرمة من حرمات الله، وإنما هو غضب المرء لنفسه الذي تمليه الأثرة الجامحة والأنانية الطاغية عندما يسمع كلمة تطمئن من غروره، أو يفقد درهما من ماله. وقبل كل شيء وبعد كل شيء فإن الإسلام قام على الأخلاق أكثر من أي شيءآخر، ونبي