وحشوك فيما بين ذلك- بول وعذرة ففيم الخيلاء؟ وعلام الكبرياء؟ فخلع المهلب الحلة ورمى بها إلى خادمه.
وإذا كان كل من الإنس والجن يرى أنه المخلوق الممتاز فتحدثه نفسه بالغرور فقد أشعر الله كلا منهما بأنه خلق من شيء تافه ضعيف لا يوحي بالغرور، إذ يقول للإنس:{أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ}، كما يقول عن الجن:{وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} وإن هذه الومضة المشرقة التي تواجهنا في لفظة (مهين) لتذكرنا وتفتح بصائرنا على المادة الأولى التي خلق منها هذا المخلوق المغرور المتكبر، وهي التراب التافه الرخيص الذي تدوسه الأقدام وتطؤه النعال.
وإذا منح الله الإنسان قوة شخر له بها كل ما في البر والبحر، فكانت هذه القوة من أعظم دواعي الغرور في نفسه، فليتذكر أن بقة واحدة تسبب له من الآلام، ما يمنع جفونه أن تنام، ولله در ابن أبي طالب رضي الله عنه إذ قال:"مسكين إبن آدم: محدود الأجل، محسوب العمل، طويل الأمل تؤلمه البقة، وتنتنه العرقة، وتقتله الشرقة".
فمن أية الطرق- يا ترى- يأتي الغرور إلى الإنسان؟ وهو لو اجتمعت له كل أسباب النجاح، وتوفرت لديه كافة ألوان السعادة، لأبعد خيال الغرور عن نفسه، علمه أنه صيد الحمام، وأنه- لا محالة- مفارق كل ما يغتر به ويعتز بوجوده في يوم من الأيام؟ ولله در من قال:(ما أصنع بدنيا، لو بقيت لها لم تبق لي، ولو بقيت لي لم أبق لها). ولما حضرت معاوية الوفاة، جمع أهله فقال لهم: (ألستم أهلي، وعليكم حزني، ولكم كدي وكسبي؟ قالو!: بلى قال: فهذه نفسي خرجت من قدمي، فردوها علي إن استطعتم، ثم بكى وقال: من تغره الدنيا بعدي"؟ ولكن المغرور أبعد ما يكون عن ذكر الموت، لأن من ذكر الموت نسي الغرور، فإن كل ما في هذه الحياة من متع وملذات، سماه الله متاع غرور، إذ قال:{وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}.
ومن علامات المغرورين التطلع للشهرة وحب الثناء، وذيوع الصيت، والإستئثار بالمناصب والاستبداد بالرأي، واللجاج في الخصومة، كل ذلك قاومه الإسلام، دين التواضع والتسامح، والتشاور والتعاون، والتضامن، والرجوع إلى الحق، والرضوخ لرأي الجماعة.