للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

لذلك كان هذا الوالد الثاكل مصروفا عن السرور بالحزن ومشغولا عن الإبتسام بالعبوس لأن سروره بما ولد لم يف بحزنه على ما فقد، إن هذا المخلوق الذي خلق للإبتلاء لو خير لاختار أن لا يجد حتى لا يفقد وأن لا يلد حتى لا يموت له، أما وهو غير مخير فأولى له ثم أولى أن يوطن نفسه على مكروه هذه الحياة ويروضها على بأسائها حتى لا تصدمه المفاجأة وتضجضعه المباغتة:

وأعظم شيء حين يفجأك البغت

إن خير خطة لنا مع دنيانا أن لا نكون معها في حرب ومعنى ذلك أن لا تجد عندنا ما تحاربنا عليه فلا تعطينا ثم تسلبنا ولا تطعمنا العسل وقد مزجته بالسبم (وليس نعيم الحياة إلا السم في الدسم) ولذا كان خير ما في هذه الحياة العافية أي أن خير ما نجنيه من الحياة أن نسلم من أذاها كما يقول الطغرائي في صحابه:

وخير صحابي من كفاني نفسه ... وكان كفافا لا علي ولا ليا

من أجل هذا يقول عليه الصلاة والسلام: "إذا سألتم الله فاسألوه العافية" ولذا لم يفتتن الأنبياء بالدنيا ولم يغتروا بزخرفها وإنما كان جل همهم في الدنيا أن يضعفوا تأثيرها في القلوب ويحاربوا سلطانها على النفوس ويجعلوا من المجتمع الإنساني كله عائلة واحدة قنوعة متحابة متآلفة لا تفسد بينهم الدنيا ولا تفرق بينهم المطامع ولا تتحكم فيهم الأهواء، ولو عمل الناس بتعاليم الأنبياء ورسالات السماء لما كانت حروب ولا مجازر ولقنع كل بما قسم له فلا تمتد يده لغيره لا بالسلب ولا بالأذى، ولكن الناس حادوا عن شرائع السماء وعادوا إلى شريعة الغاب يفتك أقواهم بأضعفهم، وأصبحت الدنيا كلها معامل لصنع الأسلحة وأصبح المال وسيلة شر بعد أن كان وسيلة خير، وأصبحت قوة الإنسان كلها موجهة إلى الفتك بأخيه فلا يبيت منه إلا على وجل.

وهكذا إذا استقلت الأرض عن السماء واستغنى الناس عن تعاليم الأنبياء تعود حياة الجاهلية الأولى من جديد ويفسد ذوق الناس فيرون الضلال هدى والهدى ضلالا ويسيرون إلى الوراء ويحسبون أنهم تقدموا إلى الأمام، ذلك بأنهم يقيسون بالحواس ما يقاس بالعقول والقلوب، فلا عجب أن ينزلوا إلى دركة الحيوان بحكم القرآن {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} ولا عجب أن يختاروا الكفر على الإيمان

<<  <   >  >>