للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

توجبها الشريعة أو يوجبها ولي الأمر في حالة العفو عن القصاص والدية.

وعقوبة القصاص وعقوبة الدية من العقوبات المقدرة؛ لأنها محددة النوع والمقدار، ولكنها مقدرة حقاً للأفراد، ومن ثم كان للمجني عليه أو وليه العفو عن العقوبة لأنها حقه، وصاحب الحق يستطيع أن يستوفيه وأن يتركه، أما ولي الأمر فليس له أن يسقط عقوبة القصاص أو الدية أو أن يعفو عن أحدهما، كما أنه لا يستطيع أن يسقط عقوبات الحدود أو يعفو عنها؛ لأنه لا يملك إسقاط حق الله ولا حقوق الأفراد (١)

، وإن كان عليه أن يستوفيها لأن استيفاءها من مقتضيات وظيفته.

* * *


(١) يقسم الفقهاء الحقوق التي تنشأ عن الجرائم إلى نوعين: حق الله تعالى، وحق الآدميين، ويعتبرون حق الله تعالى كلما كان خالصاً لله أو كان حق الله فيه غالباً، ويعتبرون الحق للعبد كلما كان خالصاً لها وكان حق العبد غالباً فيه. وتنشأ حقوق الله عن الجرائم التي تمس مصالح الجماعة ونظامها، وتنشأ حقوق الآدميين عن الجرائم التي تمس حياة الأفراد وحقوقهم. وحين ينسب الفقهاء الحق لله، يعنون بذلك أنه لا يقبل الإسقاط عن الأفراد ولا من الجماعة، وحين ينسبون الحق للأفراد يعنون بذلك أنه لا يقبل الإسقاط إلا من الأفراد.

... والواقع أن كل جريمة تمس مصلحة الجماعة إنما تمس في النهاية مصلحة الأفراد، وكل جريمة تمس مصلحة الأفراد تمس في النهاية مصلحة الجماعة ولو كان محل الجريمة حقاً خالصاً للفرد. وفي هذا يقول أحد الفقهاء: "ما من حق لآدمي إلا ولله فيه حق إذ من حق الله على كل مكلف ترك أذاه لغيره" راجع شرح الزرقاني على مختصر خليل ج٨ ص١١٥، فإذا اعتبرت الشريعة بعض الجرائم ماسة بمصلحة الجماعة؛ فذلك لأنها تمس مصلحة الجماعة أكثر مما تمس مصلحة الفرد، وإذا اعتبرت بعض الجرائم ماسة بمصلحة الأفراد؛ فذلك لأنها تمس مصلحة الأفراد أكثر مما تمس= =مصلحة الجماعة. والأصل في الشريعة: أن فرض العقوبة واستيفاءها حق لله تعالى، ولكن الشريعة جعلت استيفاء بعض العقوبات حقاً للأفراد، كعقوبة القصاص والدية؛ فلهم أن يتمسكوا بها أو يتنازلوا عنها. فإذا تنازلوا عنها كان للجماعة أن تعاقب الجاني بالعقوبة الملائمة لظروف الجريمة والمجرم. وعلى هذا فإن جعل استيفاء بعض العقوبات حقاً للأفراد لا يسلب الجماعة حقها في فرض عقوبات أخرى على هذه الجرائم، ولا يمنع من تنفيذ هذه العقوبات الأخرى بمعرفة الجماعة.
... والخلاصة: أن الحق ينسب لله كلما كان خالصاً لمصلحة الجماعة أو غلبت عليه مصلحة الجماعة، ونسبة الحق لله لا تفيده جل شأنه شيئاً، وإنما تمنع الجماعة والأفراد من إسقاط الحق؛ لأن حق الله لا يملك أحد إسقاطه.

<<  <  ج: ص:  >  >>