ولما كان القائلون بعدم صلاحية الشريعة للعصر الحاضر يبنون رأيهم على قياس الشريعة بالقوانين الوضعية، ولا مساواة بين الشريعة وهذه القوانين؛ فيكون قياسهم باطلاً، وادعاؤهم بعدم صلاحية الشريعة للعصر الحاضر ادعاء باطلاً، لأنه بني على قياس باطل، وما قام على الباطل فهو باطل.
وسنستعرض فيما يلي نشأة القانون ونشأة الشريعة ووجوه الخلاف بينهما ومميزات كل منهما، وسيظهر هذا الاستعراض الفرق جلياً بين الشريعة والقانون لمن لا يحسن التفريق بينهما، وسيتبين منه أن الشريعة تختلف عن القانون اختلافات أساسية، وتتميز عنه بصفات جوهرية.
١٥ - نشأة القانون: ينشأ القانون الوضعي في الجماعة التي ينظمها ويحكمها ضئيلاً محدود القواعد، ثم يتطور بتطور الجماعة، فتزداد قواعده وتتسامى نظرياته كلما ازدادت حاجات الجماعة وتنوعت، وكلما تقدمت الجماعة في تفكيرها وعلومها وآدابها. فالقانون الوضعي كالوليد ينشأ صغيراً ضعيفاً، ثم ينمو ويقوى شيئاً فشيئاً حتى يبلغ أشده، وهو يسرع في التطور والنمو والسمو كلما تطورت الجماعة التي يحكمها وأخذت بحظ من الرقي والسمو، ويبطئ في تطوره ونموه كلما كانت الجماعة بطيئة النمو والتطور. فالجماعة إذن هي التي تخلق القانون الوضعي وتصنعه على الوجه الذي يسد حاجاتها وينظم حياتها، وهو تابع لها وتقدمه مرتبط بتقدمها.
وعلماء القانون الوضعي حين يتحدثون عن النشأة الأولى للقانون يقولون: إنه بدأ يتكون مع تكون الأسرة والقبيلة، وإن كلمة رب الأسرة كانت قانون الأسرة، وكلمة شيخ القبيلة كانت قانون القبيلة، وإن القانون ظل يتطور مع الجماعة حتى تكونت الدولة، وإن عادات كل أسرة كانت لا تتفق مع عادات غيرها من الأسر، وتقاليد كل قبيلة لم تكن مماثلة لتقاليد غيرها من القبائل. وإن الدولة حين بدأت تتكون وحَّدت العادات والتقاليد وجعلت منها قانوناً ملزماً لجميع الأفراد والأسر والقبائل الداخلين في نطاق الدولة. ولكن