ولقد مر على الشريعة الإسلامية أكثر من ثلاثة عشر قرناً، تغيرت في خلالها الأوضاع أكثر من مرة، وتطورت الأفكار والآراء تطوراً كبيراً، واستُحدث من العلوم والمخترعات ما لم يكن على خيال إنسان، وتغيرت قواعد القانون الوضعي ونصوصه أكثر من مرة لتتلاءم مع الحالات الجديدة والظروف الجديدة، بحيث انقطعت العلاقة بين القواعد القانونية الوضعية التي نطبقها اليوم وبين القواعد القانونية الوضعية التي كانت تطبق يوم نزلت الشريعة، وبالرغم من هذا كله، ومع أن الشريعة الإسلامية لا تقبل التغيير والتبديل؛ ظلت قواعد الشريعة ونصوصها أسمى من مستوى الجماعات، وأكفل بتنظيم وسد حاجاتهم، وأقرب إلى طبائعهم، وأحفظ لأمنهم وطمأنينتهم.
هذه هي شهادة التاريخ الرائعة يقف بها في جانب الشريعة الإسلامية، وليس ثمة ما هو أروع منها إلا شهادة النصوص ومنطق النصوص، وخذ مثلاً قول الله تعالى:{وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}[الشورى: ٣٨] ، أو اقرأ قول الرسول:"لا ضرر ولا ضرار في الإسلام"، فهذان نصان من القرآن والسنة بلغا من العموم والمرونة واليسر ما لا يمكن أن يتصور بعده عموم أو مرونة أو يسر، وهما يقرران الشورى قاعدة للحكم على الوجه الذي لا يضر بالنظام العام ولا بمصلحة الأفراد أو الجماعة، وبتقرير مبدأ الشورى على هذا الوجه بلغت الشريعة من السمو حده الأقصى الذي لا يتصور أن يصل إليه البشر في يوم من الأيام، إذ عليهم أن يجعلوا أمرهم شورى بينهم بحيث لا يحدث ضرر ولا ضرار، وهيهات أن يتحقق ذلك بين الناس.
ولو تتبعنا نصوص الشريعة لوجدناها على غرار النصين السابقين من العموم والمرونة والسمو، ومن السهل علينا أن نتبين هذه المميزات لأول وهلة في أي نص نستعرضه، فنصوص الشريعة كلها تصلح أمثلة على ما نقول؛ ويكفي أن نسوق للقارئ مثلاً آخر قوله تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ