هذه هي نظرية الحرية بشعبها الثلاث، جاءت بها الشريعة الإسلامية في وقت كان الناس فيه لا يفكرون بعقولهم، ولا يحفلون إلا بما وجدوا عليه آباءهم، وكان من الطبيعي في نظرهم أن يكره الرجل على تغيير عقيدته، ولم يكن لأحد حرية القول أو التفكير إلا أصحاب السلطان والأقوياء. وقد لقى المسلمون الأول عنتاً شديداً في نشر الدعوة وبث العقيدة الإسلامية، فعذبوا لتغيير عقيدتهم، وأكرهوا على ذلك بشتى الوسائل، وكان الكفار والمكذبون يترصدون لهم؛ فلا يحاولون القول إلا منعوهم منه، ولا التعبد إلا آذوهم به.
وظاهر مما سبق أن الشريعة حين جاءت بنظرية الحرية لم تكن تجاري تطور الجماعة أو تلبي رغباتهم، لأن العالم كله في ذلك الوقت لم يكن مهيأً لنظرية الحرية، وإنما قررت الشريعة هذه النظرية لترفع بها مستوى الجماعة، وتدفعهم نحو التقدم والرقي، وتسمو بهم عن الموطن الذي نزلت بهم فيه همجيتهم، وأرضاهم به جهلهم، كذلك كان تقرير النظرية لازماً لتكميل الشريعة بما تستلزمه الشريعة الكاملة الدائمة.
وقد جاءت النصوص المقررة للحرية والمبينة لحدودها نصوصاً عامة مرنة بحيث لا يمكن أن تحتاج إلى تعديل أو تبديل. وهذا يتفق مع الأساس الذي قامت عليه الشريعة وهو عدم قابليتها للتعديل أو التبديل، ولا شك أن النصوص من العموم والمرنة بحيث لا يمكن أن تضيق بأي حال مهما تغيرت الظروف والأمكنة وطال الزمن.
ولقد سبقت الشريعة الإسلامية القوانين الوضعية في تقرير نظرية الحرية بأحد عشر قرناً على الأقل؛ لأن القوانين الوضعية لم تبدأ بتقرير هذه النظرية إلا في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر. أما قبل ذلك فلم تكن هذه القوانين تعترف بالحرية بل كانت أقصى العقوبات تخصص للمفكرين ودعاة الإصلاح ولمن ينتقد عقيدة تخالف العقيدة التي يعتنقها أولو الأمر. هذا هو الواقع وهذه هي حقائق التاريخ، فمن شاء بعد ذلك أن يعرف كيف نشأت