للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثم ظهر بعد ذلك مذهب آخر قصد منه التوفيق بين المذهبين السابقين، ويسمى مذهب الاختيار النسبي، ويرى أصحابه الإبقاء على المذهب التقليدي، لأن الإنسان مهما كان اختياره محدوداً فإن لإرادته دخلاً في الجريمة، ولكن المذهب الجديد يضيف إلى المذهب القديم فكره أخرى، وهي أن للمشرع أن يحمي الجماعة من إجرام الأشخاص الذين يمتنع عقابهم لانعدام إدراكهم أو اختيارهم، بأن يتخذ معهم إجراءات خاصة مناسبة لحالتهم. وهذا المذهب هو الذي يسود القوانين الوضعية اليوم (١) .

ويلاحظ أن المذهب القانوني الأخير يؤدي إلى نفس النتائج التي يؤدي إليها مذهب الشريعة الإسلامية، ولا يفترق عنه إلا في أن نظرية الشريعة أدق منطقاً وأفضل صياغة، فهي تجعل العقوبة ضرورة اجتماعية ووسيلة لحماية الجماعة، وتفرق في تطبيق وسائل حماية الجماعة بين الشخص المختار المدرك وبين فاقد الإدراك أو الاختيار، أما المذهب القانوني فأساس العقوبة فيه مخالفة أمر الشارع وتحقيق العدالة، وهذا الأساس مأخوذ عن المذهب التقليدي، وهو أساس يتعارض منطقياً مع معاقبة غير المسئول، أو إتخاذ أي إجراء ضده، إذ لا يمكن أن يقال إن فاقد الإدراك والاختيار خالف أمر الشارع، وإذا لم يكن قد خالف أمر الشارع فليس من العدالة في شئ أن يؤاخذ بأي وجه من وجوه المؤاخذة. والشريعة الإسلامية وإن كانت تجعل أساس المسئولية الجنائية الإدراك والاختيار، والمدرك المختار مسئولاً كلما خالف أمر الشارع، وتعتبر فاقد الإدراك أو الاختيار غير مسئول، إلا أنها تجعل العقاب ضرورة اجتماعية ووسيلة لحماية المجتمع، وهذا يجعل من حق الشارع عقاب المسئول جنائياً بالعقوبة التي تحمي الجماعة منه، كما يجعل من حق الشارع أن يتخذ ضد غير المسئول الوسائل الملائمة لحماية الجماعة من شره وإجرامه إذا دعت الضرورة لذلك.


(١) القانون الجنائي لعلي بدوي ص٣٣٠، ٣٣٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>