للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وتطبيقاً لقاعدة اقتران الأعمال بالنيات لا تنظر الشريعة للجناية وحدها عندما تقرر مسئولية الجاني، وإنما تنظر للجناية أولاً وإلى قصد الجاني ثانياً، وعلى هذا الأساس ترتب مسئولية الجاني (١) .

والمعاصي التي يمكن أن تنسب للإنسان المدرك المختار فيسأل عنها جنائياً لا تخرج عن نوعين: نوع يأتيه الإنسان وهو ينتوي إتيانه ويقصد عصيان الشارع، ونوع يأتيه الإنسان وينتوي إتيانه ولا يقصد عصيان الشارع، أو لا ينتوي إتيانه ولا يقصد العصيان ولكن الفعل يقع بتقصيره أو بتسبيبه، فالنوع الأول هو ما يتعمده قلب الإنسان، والنوع الثاني هو ما يخطئ به.

ولما كانت الشريعة الإسلامية تقرن الأعمال بالنيات كما قلنا فقد فرقت في المسئولية الجنائية بين ما يتعمد الجاني إتيانه وبين ما يقع من الجاني نتيجة خطئه، وجعلت مسئولية الجاني العامد مغلظة ومسئولية الجاني المخطئ مخففة، وعلة التغليظ على العامد أنه يتعمد العصيان بفعله وقلبه فجريمته متكاملة، وعلة التخفيف على المخطئ أن العصيان لا يخطر بقلبه وإن تلبس بفعله فجريمته غير متكاملة.

وقد فرق القرآن بين العامد والمخطئ في قوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُم} [الأحزاب: ٥] ، وكرر الرسول عليه الصلاة والسلام هذا المعنى في قوله: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان"، والمقصود من عدم الجناح ومن رفع الخطأ هو تخفيف مسئولية المخطئ وعدم تسويته بالعامد، ولا يقصد من هذين التعبيرين محو المسئولية الجنائية كلية، وليس أدل على ذلك من أن الله جل شأنه جعل عقوبة القتل العمد القصاص، وجعل عقوبة القتل الخطأ الدية والكفارة، فغلظ مسئولية العامد وخفف مسئولية المخطئ ولم يمحها كلية، وذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى}


(١) أعلام الموقعين ج٣ ص١٠١- ١٠٤، الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم ج٥ ص١٤١ وما بعدها، الأشباه والنظائر ص٨ وما بعدها.

<<  <  ج: ص:  >  >>