للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

من نافذة بقصد إصابة شخص مار في الشارع فيصيبه، فإنه يرتكب معصية لم يأتها إلا وهو قاصد فعلها. ويتفق هذا المثل مع المثل السابق في أن كلاً من الجانبين أتى معصية حرمها الشارع، ويختلف المثلان في أن الجاني في المثل الثاني قصد إتيان المعصية بينما الجاني في المثل الأول لم يقصد إتيان المعصية.

والتفرقة بين العصيان وبين قصد العصيان تقابل النفرقة بين الإرادة Volonté وهي تعمد الفعل المحرم أو تركه مادياً وبين القصد Intention وهو تعمد النتيجة المترتبة على الفعل المادي، تلك التفرقة التي نقول بها اليوم في القوانين الوضعية.

ولا شك أن التعبير بالعصيان عن إتيان الفعل المادي ويقصد العصيان عن تعمد نتيجة الفعل هو تعبير أكثر دقة ودلالة على هذين المعنيين من التعبير عنهما بالإرادة والقصد؛ لأنه ليس ثمة فرق بين الإرادة والقصد من الوجهة اللغوية، وهما لفظان مترادفان يصلح كلاهما للدلالة على تعمد الفعل وتعمد نتيجته، وهذه الصلاحية اللغوية تؤدي إلى الخلط بين المعاني الفنية كما تؤدي إلى العجز عن تمييزها أحياناً.

وقصد العصيان أو القصد الجنائي قد يوجد لدى الجاني قبل اقتراف الجريمة، كأن ينتوي قتل إنسان ثم ينفذ القتل بعد ذلك بزمن ما، وقد يعاصر القصد الجريمة كما هو الحال في جرائم المشاجرات أو في الجرائم التي تحدث بغتة بغير تدبير سابق.

ويستوي في الشريعة أن يكون القصد سابقاً للجريمة أو معاصراً لها، فالعقوبة في الحالين واحدة؛ لأن أساس تقدير العقوبة هو القصد المقارن للفعل وقد توفر، ولا يصح تشديد العقاب مقابل القصد السابق على الفعل؛ لأن معنى ذلك هو العقاب على القصد وحده مستقلاً عن الفعل، والقاعدة في الشريعة أن لا عقاب على حديث النفس وقصد الجريمة قبل ارتكابها؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "إن الله يجاوز لأمتي عما وسوست أو حدثت به نفسها ما لم تعمل به أو تكلم"، وعلى أساس هذه القاعدة لا تفرق الشريعة في القتل والجرح بين العمد مع سبق الإصرار والترصد وبين العمد الخالي من سبق الإصرار والترصد، بل تجعل العقوبة واحدة

<<  <  ج: ص:  >  >>