القصد الاحتمالى وليس أدل على ذلك من جرائم الجرح والضرب، فالضارب يضرب وهو لا يقصد إلا مجرد الإيذاء أو التأديب ولا يتوقع أن يصيب المجنى عليه إلا بجرح بسيط أو كدمات خفيفة أو لا يتوقع أن يصيبه إلا بمجرد الإيلام، ولكن الجانى لا يسأل فقط عن النتائج التى توقعها وإنما يسأل أيضًا عن النتائج التى كان فى وسعه أن يتوقعها أو التى كان يجب عليه أن يتوقعها، فإذا أدى الضرب إلى قطع طرف أو فقد منفعة فهو مسئول عن ذلك، وإذا أدى لوفاة المجنى عليه فهو مسئول عن هذه الوفاة باعتبار الحادث قتلاً شبه عمد لا ضربًا.
لكن ما هو رأى فقهاء الشريعة فى القصد الاحتمالى فى جريمة القتل العمد بالذات؟ ذلك القصد الذى عرفته محكمة النقض المصرية بأنه "نية ثانوية غير مؤكدة تختلج بها نفس الجانى الذى يتوقع أن قد يتعدى فعله الغرض المنوى عليه بالذات إلى غرض آخر لم ينتوه من قبل أصلاً فيمضى مع ذلك فى تنفيذ الفعل فيصيب به الغرض غير المقصود ومظنة وجود تلك النية هى استواء حصول هذه النتيجة وعدم حصولها لديه ذلك القصد الذى يقيمه الألمان مقام القصد الثابت فى جريمة القتل وغير القتل ويقولون: إنه يكون كلما تصور الفاعل النتيجة ممكنة الوقوع ثم يمضى بالرغم من ذلك فى فعلته مستهينًا بالنتيجة".
ولا يسلم أبو حنيفة والشافعى وأحمد بالقصد الاحتمالى فى جريمة القتل العمد ويصرون على أن تتوجه نية الجانى للقتل، وأن يرتكب الفعل بقصد الوصول لهذا الغرض. ولعل حرصهم على ظهور نية القتل عند الجانى راجع إلى أنهم يقسمون القتل إلى عمد وشبه عمد وخطأ وفى العمد وشبه العمد يتعمد الجانى العدوان ولكن الذى يميز العمد عن شبه العمد هو أن الجانى يقصد القتل فى العمد فلو سلموا بالقصد الاحتمالى فى القتل العمد لانعدم الحد الفاصل بين القتل العمد والقتل شبه العمد.
وقد سلم بعض فقهاء مذهب أحمد بالقصد الاحتمالى فى جريمة القتل فى موضعين فقط، واعتبروا الفاعل قاتلاً عمدًا أخذًا بقصده المحتمل: الأول: إذا أخطأ الجانى فى الفعل، كأن أراد أن يقتل زيدًا فلما رماه أخطأه وأصاب عمرًا بشرط أن يكون زيد معصومًا؛ أى غير مهدر الدم كأن يكون حربيًا أو مرتدًا، فإن كان مهدر الدم فالقتل خطأ لا عمد. الثانى: إذا كان الخطأ فى ظن الفاعل كأن يقصد قتل زيد فيقتل عمرًا على أنه زيد بشرط أن يكون معصومًا.
أما مالك فمذهبه يتسع للقصد الاحتمالى فى جريمة القتل العمد ولما هو أكثر من القصد الاحتمالي؛ لأنه لا يعرف القتل شبه العمد، والقتل عنده نوعان فقط: عمد وخطأ، والعمد عنده لا يشمل فقط الفعل المقصود به القتل وإنما يشمل كل فعل قصد به مجرد العدوان ولو لم يقصد الفاعل القتل، ولما كان من المستبعد عقلاً أن تؤدى كل أفعال العدوان البسيطة إلى الموت، فمعنى ذلك أن مذهب مالك يتسع لأكثر من القصد الاحتمالى؛ لأنه يتسع لما يتصوره الفاعل ممكن الوقوع ولما يتصوره ممتنع الوقوع.
٩٩- مقارنة: والنظرية الفرنسية تتفق مع نظرية الأئمة الثلاثة فالفرنسيون لا يرون الأخذ بالقصد الاحتمالى فى جريمة القتل العمد ولو أن القانون الفرنسى أخذ المتهم بقصده الاحتمالى فى جرائم الضرب والجرح وحجتهم أن الأخذ بنظرية القصد الاحتمالى فى القتل العمد يؤدى إلى اختلاط القتل العمد بالضرب المفضى إلى الموت وتجعل التمييز بينهما متعذرًا، أما مذهب مالك فيتفق مع النظرية الألمانية كما يتفق مع القانونين الإنجليزى والسودانى، وهما يعتبران القتل عمدًا إذا حصل الفعل بقصد تسبب الموت أو إذا علم الفاعل أو كان له داع أن يعلم أن الموت ربما يكون نتيجة الفعل المحتملة. ولكن بالرغم من هذا الاتفاق الظاهرى فإن مذهب مالك يظل أكثر اتساعًا من مذهب الألمان والقانونين الإنجليزى والسودانى، فمثلاً إذا لطم شخص آخر صحيحًا بقصد الاعتداء ودون أن يقصد القتل فمات من اللطمة فهو قاتل عمدًا عند الإمام مالك، ولا يعتبر قاتلاً طبقًا للنظرية الألمانية، لأن إمكان الموت من اللطمة بعيد التصور، كذلك لا يعتبر قاتلاً بحسب القانونين الألمانى والإنجليزى لأنه ليس فى ظروف