غير أنه لم يكد جيل الصحابة- وهم شهود وحفاظ السيرة- يختفي حتى ظهرت الحاجة إلى تدوين وتسجيل السيرة النبوية، والتأريخ للعهد النبوي، فجيل التابعين- وهم الذين رأوا الصحابة وعاصروهم وتعلموا منهم- لم يروا بأنفسهم الأعمال الرائعة والجهاد المجيد الذي قام به الرسول صلّى الله عليه وسلم من أجل الرسالة الإسلامية وتبليغها للناس، ولكنهم سمعوا عن ذلك من الصحابة، فبهرتهم الأعمال والمواقف والأخلاق فتاقت نفوسهم لمعرفة كل شيء بالتفصيل، ولم يفوتوا الفرصة، بل عضوا عليها بالنواجذ. وأخذوا يسألون الصحابة الذين صحبوا الرسول وضحوا معه، وشهدوا جميع مشاهده ومواقعه، ومن الأسئلة التي كانوا يسألونها- على سبيل المثال- متى وكيف كانت بيعة العقبة؟ متى كانت الهجرة إلى الحبشة؟ وكم عدد الذين هاجروا في الأولى والثانية؟ ومتى عادوا؟ وكيف كانت غزوة بدر؟ ومن الذين شهدوها؟ هذه الأسئلة وأمثالها كانت تلقى على الصحابة ويجيبون عنها، وأسلوب السؤال والجواب- كما هو المعروف- من أهم روافد العلم، خصوصا في مراحل النشأة والتكوين.
بل إن القرآن الكريم حافل باستخدام أسلوب السؤال والجواب حتى في مجال العقيدة وإثباتها، وإقامة الحجة على الكافرين الجاحدين، مثل قول الله تعالى: قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٤) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٨٥) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٨٦) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ [المؤمنون ٨٤- ٨٧] .
وكان من الطبيعي أن تكون المدينة المنورة هي أصلح بيئة للإجابة عن كل ما يتعلق بحياة الرسول وسيرته، حيث عاش معظم الصحابة الذين عايشوا أحداث الإسلام الكبرى في عهد الرسول، ونقلوها للتابعين، الذين لم يكتفوا بالتلقي والحفظ، بل بدؤوا تدوين الوقائع والأحداث كما سمعوها من الذين شاهدوها، وكانت تلك لحظة البداية، بداية التأليف في السيرة النبوية. واتسعت دائرة السؤال والجواب، ولم تعد قاصرة على المدينة وحدها، بل سارع الناس في خطى الصحابة في كل مصر حلوا به، مثل البصرة والكوفة ودمشق والفسطاط.. إلخ.
ومن حسن الحظ أن من كبار التابعين الذين بدأوا التدوين في السيرة النبوية، وأصبحوا مصدرا رئيسيّا من مصادرها كانوا من أبناء كبار الصحابة الذين أخذوا العلم عن آبائهم الكرام، وهم الذين رأوا كل شيء وشاركوا بأنفسهم، بل كان من