الله تعالى- على والي العراق العظيم الحجاج بن يوسف الثقفي، الذي اختاره لهذه المهمة الجليلة، ووضع ثقته فيه، ولم يقصر في إمداده بالرجال والعتاد والرأي والمشورة، كما كان من حسن حظ قتيبة أن ولايته على خراسان واضطلاعه بقيادة الفتوحات في بلاد ما وراء النهر قد جاءت في وقت ملائم تماما، حيث كانت الدولة الأموية تغلبت على جميع مناوئيها، واستقرت أمورها واستردت عافيتها، في خلافة الوليد بن عبد الملك (٨٦- ٩٦ هـ) فاجتمعت لقتيبة شجاعة القائد وإقدامه وعزم الوالي وتصميمه، وقوة الدولة واستقرارها، فكانت أمجاده وأعماله الرائعة في ما وراء النهر.
ولقد برهن قتيبة بن مسلم على أنه لم يكن قائدا عسكريّا فذّا وفاتحا عظيما فحسب، بل أنه كان رجل إدارة وتنظيم وسياسة من الطراز الأول وأنه كان يعرف طبيعة المهمة التي أو كلت إليه، كما أنه كان يعرف كل شيء عن خراسان- القاعدة التي ستنطلق منها الغزوات- والتي كانت رياح الخلافات والعصبيات العربية قد هبّت عليها؛ من جراء التنافس على الولاية والمناصب الآخرى بين أبناء القبائل العربية- خاصة اليمن وقيس- فكان على قتيبة- قبل أن يمضي إلى تنفيذ مشروعه الكبير لفتح ما وراء النهر- أن ينسي العرب خلافاتهم ويجعلهم يرتفعون فوق العصبيات، ويذكّرهم برسالتهم السامية التي أكرمهم الله بها وشرفهم بحملها، وأن يعدهم نفسيّا لاستئناف الجهاد في سبيل الله.
فما أن وصل خراسان حتى اجتمع برؤساء القبائل وأعيان الناس، وخطب فيهم خطبة بليغة، كان لها أبلغ الأثر في جمع الكلمة والتوجه للجهاد في سبيل الله بدلا من ضياع الوقت والجهد في المنازعات والخلافات القبلية التي لا طائل من ورائها.
وكان مما قاله قتيبة في خطبته تلك، مخاطبا زعماء القبائل: «إن الله أحلكم هذا المحل ليعز بكم دينه، ويذبّ بكم عن الحرمات، ويزيد بكم المال استفاضة، والعدو وقما- أي: ذلّا- ووعد نبيه صلّى الله عليه وسلم النصر بحديث صادق وكتاب ناطق، فقال تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة: ٣٢] ، ووعد المجاهدين في سبيله أحسن الثواب وأعظم الذخر عنده، فقال تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١٢٠) وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا