للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قاوموهم بعنف- فبعد إلقاء السلاح، كان التسامح هو طابع السلوك الإسلامي العام مع المغلوبين، ونتحدى أن يكون التاريخ البشري قد سجل في صفحاته حالة واحدة تفوق فيها غير المسلمين من الغالبين على المسلمين، وكانوا أكثر تسامحا منهم، بل حتى ساووهم في التسامح والإنسانية مع المغلوبين الذين أصبحوا تحت السيادة الإسلامية، ووفاء المسلمين بالمعاهدات- نصّا وروحا- أصبح من الحقائق التاريخية التي لا يجادل فيه باحث منصف لدرجة أنه لما خالف أحد القادة الفاتحين هذه القاعدة وشذ عليها، سجل التاريخ الإسلامي تلك الحالة الوحيدة، وأزال خليفة المسلمين تلك المخالفة؛ والحالة هي حالة قتيبة بن مسلم، عند ما دخل سمرقند على شروط معينة، ولكنه لما دخلها لم يف بالشروط، فلما جاء الخليفة عمر بن عبد العزيز (٩٩- ١٠١ هـ) رفع إليه أهل سمرقند شكواهم، وقالوا: إن قتيبة دخل مدينتهم على وعد بالخروج منها، ولكنه لم يف بوعده، أي: غدر بهم، فكتب الخليفة عمر بن عبد العزيز إلى عامله على بلاد ما وراء النهر أن ينصب لهم قاضيا ينظر في شكواهم، فإن قضى بإخراج المسلمين من المدينة أخرجوا منها، فأقام لهم الوالي القاضي حاضر بن جميع، الذي نظر في القضية، ورأى أن الحق مع أهل سمرقند- المغلوبين- فحكم بإخراج المسلمين من المدينة على أن ينابذوهم على سواء، ولكن أهل سمرقند- وقد أذهلهم هذا السلوك الإسلامي الذي لم يسبق له مثيل في التاريخ البشري- كرهوا الحرب وأقروا المسلمين على الإقامة في مدينتهم «١» .

هذا هو الإسلام، وذلك هو سلوك المسلمين وهذا المثل الوحيد- الذي خالف فيه قتيبة ما اتفق عليه مع أهل سمرقند- وسط كل تلك الحروب المتواصلة والأحداث المتلاحقة، وكثرة الانتقاض ونكث العهود من أهل تلك البلاد، يدل على أن المبدأ الأصيل هو التزام المسلمين بالوفاء بالعهود، وأن السلطة الإسلامية العليا- الخلافة- كانت ساهرة على حفظ وصيانة المعاهدات، وتصحيح أي خطأ قد يحدث من أي عامل في أي مكان.

فعلى سبيل المثال عند ما أخطأ بعض العمال- لما تزايد إقبال الناس على اعتناق الإسلام، وأدى ذلك إلى تناقص الجزية- وظلوا يأخذون الجزية من المسلمين الجدد، مؤثرين الجباية على الهداية، مخالفين بذلك قواعد الإسلام، وعندئذ لم يحتمل ضمير


(١) انظر تفاصيل القصة في فتوح البلدان للبلاذري (ص ٥١٩) .

<<  <   >  >>