وصل الأمر إلى سمع الأمير محمد بن عبد الرحمن بن الحكم (٢٣٨- ٢٧٣ هـ/ ٨٥٢- ٨٨٦ م) طلب حضور «بقي» ومعه الكتاب، وطلب حضور معارضيه من فقهاء المالكية، وأمر بقيّا أن يتصفح الكتاب جزآ جزآ إلى أن أتى على آخره، وقد ظن علماء المالكية أن الأمير قد وافقهم على إنكارهم على صاحب الكتاب وأنه سيأمر بمصادرته أو منعه من القراءة والتداول، ولكنهم فوجئوا بالأمير يقول لخازن الكتب:«هذا كتاب لا تستغني خزانتنا عنه، فانظر في نسخه لنا ثم قال لبقي بن مخلد: انشر علمك وارو ما عندك من الحديث، واجلس للناس حتى ينتفعوا بك ... ونهاهم أن يتعرضوا له»«١» ا. هـ.
بعض أولئك الذاهبين إلى المشرق للحج وطلب العلم لم يعودوا إلى الأندلس مزودين بالعلم في صدورهم فقط، بل كانوا يعودون بأعداد من الكتب، جمعوها في سنين عددا، وإليك أنموذجا من هؤلاء ذكره ابن بشكوال في كتاب الصلة وهو «سلمة بن سعيد بن سلمة الأنصاري» رحل إلى المشرق وحج وأقام بالمشرق ثلاثا وعشرين سنة وأدب في بعض أحياء العرب ولقي أبا بكر محمد بن الحسين الآجري، وسمع منه بعض مصنفاته، وأجاز له أيضا حمزة بن محمد الكناني، والحسن بن رشيق، وابن مسرور الدباغ، والحسن بن شعبان وغيرهم، ولقي أيضا أبا الحسن الدارقطني وأخذ عنه وأبا محمد بن أبي زيد الفقيه، وكان رجلا فاضلا ثقة فيما رواه، راوية للعلم، حدث وسمع الناس منه كثيرا، ذكره الخولاني وقال: كان حافظا للحديث، يملي من صدره، يشبه المتقدمين من المحدثين، وكانت روايته واسعة وعنايته ظاهرة، ثقة فيما نقل وضبط، ... ثم يصل ابن بشكوال إلى ما نريد التنويه به، وهو أن سلمة حمل معه من المشرق ثمانية عشر حملا مشدودة من الكتب، ثم يقول: وسافر من اتجه إلى المشرق، واتخذ مصر موئلا واضطرب- أي: تجول- في المشرق سنين كثيرة جدّا يجمع في الآفاق كتب العلم، فكلما اجتمع من ذلك مقدار صالح نهض به إلى مصر، ثم انزعج- أي: رجع- بالجميع إلى الأندلس، وكانت في كل فن من العلم، ولم يتم له ذلك إلا بمال كثير حمله
(١) المصدر السابق (ص ١٥) ، وهناك مناسبات كثيرة تدخل فيها أمراء بني أمية للحد من تسلط فقهاء المالكية ومعارضتهم لكل رأي مخالف لأرائهم، راجع في ذلك د. محمد عبد الحميد عيسى- تاريخ التعليم في الأندلس، طبع دار الفكر، القاهرة (١٩٨٢ م) ، (ص ٩٨) وما بعدها.