حمل بعير، وحمل البعير من الكتب يكفي لتكوين مكتبة محترمة، فما بالنا بثمانية عشر حملا جاء بها عالم واحد؟ والعلماء الذي رحلوا من المشرق إلى الأندلس حملوا معهم أيضا كثيرا من الكتب، وعند ما ألف ابن عبد ربه تحفته الأدبية الرائعة- «العقد الفريد» - دل على أن علم المشرق كان معروفا كله عند علماء الأندلس، ولذلك عندما قرأ الوزير البويهي الشهير الصاحب بن عباد ذلك الكتاب قال عبارته المشهورة:«هذه بضاعتنا ردت إلينا» .
وخلاصة القول: أن أمراء وخلفاء بني أمية في الأندلس بذلوا أقصى طاقاتهم ولم يدخروا وقتا ولا جهدا ولا مالا، وسلكوا كل السبل لبناء حضارة عربية إسلامية على الأرض الأندلسية التي كانت من قبل ذات حضارة متواضعة بالقياس إلى الحضارة في أقطار المشرق، مثل مصر والشام والعراق وفارس ... إلخ وهذا يشهد للأمويين بالعبقرية «١» ، فقد فتحوا قنوات ثقافية مع العديد من الدول الإسلامية والنصرانية على السواء، وسبق ذكر الهدية التي أهداها الإمبراطور قسطنطين السابع إلى الخليفة عبد الرحمن الناصر من الكتب القيامة. وكذلك أقام الأمويون علاقات طيبة وودية مع الرستميين في الجزائر الحالية. وهم خوارج إباضية- كما أشرنا من قبل- وأصبحت تاهرت عاصمتهم أحد روافد العلوم التي كانت تمد قرطبة بكل ما يأتيها من الشرق، وتتلقى منها كذلك «وشهدت عاصمتا الدولتين العديد من الزيارات المتبادلة بين العلماء كما أصبحت الدولة الرستمية الجسر الذي ضمن استمرار التدفق الحضاري من المشرق إلى الأندلس؛ لذا حرص الأمويون على استغلال هذا الجسر رغبة منهم في ربط إمارتهم البعيدة بتيار الحضارة الإسلامية في المشرق، وعن طريق الرستميين نجح أمراء بني أمية في الأندلس في الحصول على ما يحتاجون إليه من كنوز المشرق العربي ومؤلفاته ومخطوطاته وكذلك علمائه، وكانت لدى الرستميين مكتبتهم الضخمة التي عرفت بالمعصومة والتي حوت عددا ضخما من الكتب والمؤلفات في مختلف العلوم والفنون بالإضافة إلى جهود العلماء المحليين.
وبذا يكون الرستميون قد قاموا بدور الوسيط الثقافي، كما قاموا من قبل بدور الوسيط التجاري، فأخذوا من المشرق وأعطوا الأندلس، فكانت بلادهم ماء الحياة
(١) راجع سيجريد هونكه- شمس العرب تسطع على الغرب، مرجع سابق (ص ٤٧٤، ٤٧٥) ، وراجع أيضا، جاك ريسلر الحضارة العربية، مرجع سابق (ص ٢٧٣) .