ومن هذا القبيل كتب أصغر حجما وتعنى بالتأريخ للاستشراق والمستشرقين، في أقطار معينة، مثل دراسة المستشرق الألماني رودي بارت بعنوان «الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات الألمانية» ، ودراسة الدكتور إسحاق موسى الحسيني بعنوان «علماء المشرقيات في انجلترا» ... إلخ، من يطالع هذه الكتب وأمثالها يدرك حجم واتساع حركة الاستشراق، وأنها وإن بدأت ضيقة الأفق في الأوساط الكنسية والديرية، إلا أنها بدأت تتخلص من بعض النظرات المتعصبة الحاقدة، وبدأنا نقرأ أبحاثا فيها كثير من الإنصاف للإسلام ورسوله وحضارته، بل بدأنا نرى علماء كثيرين في الغرب يعترفون صراحة بفضل الحضارة العربية الإسلامية على الحضارة الأوربية، وأنها كانت الأساس والشرارة التي انطلقت منها النهضة الأوربية، ومن هذا القبيل كتاب المستشرقة الألمانية سيجريد هونكه «شمس الله تسطع على الغرب» .
لكن للأسف الشديد، وعلى الرغم من تحرر كثير من المستشرقين من نظرة الحقد والتعصب على الإسلام في كتاباتهم وأبحاثهم، إلا أن ذلك كله ظل في دائرة العلماء والأوساط الأكاديمية، وظلت الصورة الشائعة الكريهة التي رسمتها الأبحاث المتعصبة هي الباقية والمترسبة في الذهنية الأوربية بصفة عامة، فنظرة الرجل الأوربي العادي إلى الإسلام، وكل من وما ينتمي إليه نظرة يحكمها الاستعلاء والازدراء؛ لأن مناهج التعليم التي يتلقاها الأطفال في أوربا وأمريكا حافلة بكل ما يحقر من الإسلام والمسلمين، فعندما يشب هؤلاء الأطفال، وينهون دراساتهم، ويصبحون رجالا في مواقع المسؤولية وإصدار القرار؛ فإنهم لا يستطيعون انفكاكا من الصورة القبيحة التي تلقوها عن الإسلام في مراحل التعليم المختلفة، فتكون تصرفاتهم وقراراتهم فيما يتعلق بعلاقاتهم بالعالم الإسلامي محكومة بصفة عامة بهذه الخلفية، ولا تؤثر فيها مطلقا الدراسات المنصفة؛ لأنها تجد الرواج على نطاق واسع، ويبدو أن الأمر متعمد، والدلائل على ذلك لا حصر لها.
نعود إلى الحديث عن بداية الاستشراق والدراسات الاستشراقية، تلك البداية التي لم يحسم القول فيها حتى الآن، وإن كنا نتفق مع من يرى أنها تعود إلى بدايات ظهور الإسلام، واحتكاكه بالعالم المسيحي الذي بدأ أولا في ساحات القتال كما أشرنا فيما سبق.
ولقد بدأ الاستشراق في الشرق نفسه قبل أن يبدأ في الغرب، وعلى أيدي رجال اللاهوت المسيحي في الكنائس والأديرة، فالقديس يوحنا الدمشقي (٨٠- ١٣٧ هـ/ ٧٠٠- ٧٥٥ م) الذي كان واحدا من كبار رجال الكنيسة في الشام،