قال أبو سليمان: ما أحسن هذا! وطالما يسكت عن هذه المسألة فانقضت عن جوابها؟ قالوا: ولولا هذه المشيئة المندفئة، والغاية المستترة، التي استأثر الله بها، لكان لا يعرض هذا الخطأ مع صحة الحساب ودقة النظر، وشدة الغوص وتوخي المطلوب، وتبع غلبة الهوى والميل إلى المحكوم له؛ وهذه البقية دائرة في أمور هذا الخلق، فاضلهم وناقصهم ومتوسطهم، وفي دقيقها وجليلها، وصعبها وذلولها؛ ومن كان له من نفسه باعث على التصفح والنظر والتخير والاعتبار، وقف على ما أومأت إليه عن كثب، وسلمه من غير منكر ولا صخب.
ثم قيل: ولحكمة جليلة ضرب الله دون هذه العلل بالأسداد، وطوى حقائقه عن أكثر العباد، وذلك أن للعالم بما سيكون ويحدث ويستقبل، علم خلق للنفس، واقع عند العقل، فلا أحد إلا وهو يتمنى أن يعلم الغيب ويطلع عليه، ويدرك ما سوف يكون في غد، ويجد سبيلاً إليه، ولو دل السبيل إلى هذا الفن لرأيت الناس يهرعون إليه، ولا يؤثرون سبيلاً آخر عليه، لحلاوة هذا العلم عند الروح، ولصوقه بالنفس، وغرام كل أحد به، وفتنة كل إنسان فيه؛ فبنعمة من الله لم يفتح هذا الباب، ولا انكشف من دونه الغطاء، حتى يرتعي كل أحد روضه، ويلزم حده، ويرغب فيما هو أجدى عليه وأنفع له، أما عاجلاً فقد علمت أن علم ما يكون أحب إلى جميع الناس من كل فقه وكلام وأدب وهندسة وشعر وحساب وطب، لأن هذه رتبة إلآهية، وهي الفاصلة الكبرى. فطوى الله عن الخلق حقائق الغيب، ونشر لهم نبذاً منه، وشيئاً يسيراً يتعللون به، ليكون هذا العلم محروصاً عليه كسائر العلوم، ولا يكون مانعاً عن غيره.
قال: ولولا هذه البقية التي فضحت الكاملين، وأعجزت القادرين، لكان