بسبب مكان معشب وكلأ كثير؟! فقال له مجيباً، وهو وادع النفس رخي البال، حاضر الفكر ساكن الطباع: أيها الشيخ، لو رأيت بعينك ما رأيته لتمنيت أن تكون كما تمنيت. وهذا يدل على أن الذي أثار شهوته في ذلك المكان لم يكن جوعاً قد توالى، ولا نهمة قد غلبت، بل كان نذالة النفس ولؤم الطباع، وسقوط الجوهر، وغباوة الروح، وقلة العقل.
فهل تظن حفظك الله بعد هذا بمن هذا حديثه وجملته وتفصيله، أن ينتعش من صرعته، أو يستبصر في شأنه، أو يهتدي لسعادته، أو يلتفت إلى معاده؟ وهل بين هذا وبين الحمار الذي هو حيوان نهاق فرق؟ بل قد سمعت بمن قال إن الحمار خير من هذا بكثير، لأن الحمار لازم لحده غير منحرف إلى ما ليس في قوته، وهذا قد بطل حده بإدارته، وجمع النقص كله لنفسه بقبح شهوته وفساد أمنيته. على أني شاهدت قبل هذا إنساناً متماسكاً وكان له حظ من التجربة بالسنن العالية والسفر البعيد، وكان متميزاً بمذاهب الصوفية، يقول يوماً، وقد أبصر حماراً يمشي: ليتني كنت هذا الحمار! فعجبت منه فضل عجب، وانكشف لي أنه إنما تمنى ذلك ليكون ناجياً من قلائده ومؤنة ما هو بعرضه وصدده عاجلاً، وما هو مأخوذ به، ومخوف منه ومعد له آجلاً، فكان عذر هذا عندي أخرج من كل الجهل، وأدخل في بعض الوهم. وإنما هجس هذا في ضميره وجاش على لسانه وافصح بذكره والتشدد فيه، لأنه كان جاهلاً بالجوهر الذي هو أشرف من الإنسان بحده الخالص من كل شوب، فنزل عن تلك الربوة العالية والذروة الشماء، أعني الجواهر العلوية الأبدية، وتمنى أن يكون حيواناً هو أخس من الإنسان عند كل إنسان، إلا إنه يحتاج في تسليم هذا ومعرفته إلى مقدمتين ونتيجة، بل العلم به أول والتسليم له ضرورة، لا لشيء إلا ليتخلص من عوارض الدنيا وكلف الحياة وضروات الطبيعة ومطالب الحواس، ولو أدرك بقوته شيئاً وعقله وحكم به، لصمد نحوه، وطلب الانتساب إليه، والإشراف