للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وصدق ظنه، ووضح حدسه، وأصابت فراسته، وكان التوفيق قائده، والسعادة غانيته، والغبطة حليته، والبقاء حليفه، والأبد نعته. وما أسهل هذا الوصف؟ على ما أقول، وعليك بالسماع، وما أصعبه علينا جميعاً بالعقل! وكيف لا يكون ذلك صعباً، والإنسان منوط بالطبيعة من طرف، ومضاف إلى العقل من طرف؟ فبالطبيعة يفزع إلى ما هو فساده وهلاكه، وبالعقل يختار ما هو صلاحه وكماله، لكن اختياره ضعيف فيه، لأنه عال في أفق العقل الذي هو موجب الواجب ومحسن الحسن، وإرادته الطبيعة قوية فيه، لأنها ناشئة منه، وكامنة فيه، ومترددة عليه، والنقص على الجمهور في كل حال وأمر. وأن العجب كل العجب ممن يكمل في دار النقص، أو يصح في عرصة العلل، أو يسلم في خطة البلوى، أو يلذ الصاب والعلقم، ويغفل عن غائلتهما وينعم؟!

وكان بعض الألهيين يقول: الإحسان من الإنسان زلة، والجميل منه فلتة، والعدل منه غريب، والعفة فيه عرض ضعيف. ومما يزيدك ثقة بما يصرف من القول به نقص هذا الإنسان الذي قد اكتنفه الفساد من كل جهة، وملكه الجهل بكل حال، أنا وجدنا في هذه الأيام من نظر إلى واد أغن بالكلأ قد استحلست الأرض به خضرة وندى وحسناً، فخف حين خالف عينه في أطرافه وبلغ به العجب إلى أن قال: ليتني كنت بقرة فكنت آكل من هذا كله أكلاً ذريعاً، وهكذا من أعلاه إلى أسفله، ومن أسفله إلى أعلاه. وكان يقول هذا وهو على شكل ظريف، لا سبيل للعلم إلى تقريره وإلى أدائه على وجهه وحقيقته، واللسان أيضاً لا يأتي على خواصه ومعانيه، وهو متحسر في قوله، على هيئة المجنون، لغلبة الإرادة الطبيعية، وقوة الحركة الحيوانية، وموت العقل الإنساني، وبطلان الشرف الجوهري فلما فشا عنه هذا الحديث وكثر، قال له بعض الفقهاء معنفاً ولائماً ومنبهاً له على خساسته: يا هذا، هل رأيت قط من تمنى وهو إنسان أن يكون بقرة

<<  <   >  >>