قال: والإشارة في هذين الفصلين بينة مكشوفة، ومتى لم تقف عليها من تلقاء نفسك بضياء عقلك وذكاء قريحتك، فصل إليها من جهة أرباب الحمة وأعلام الفلسفة، فإنك متى جربت هذه الأعراض، وتخللت هذه المعارف، وثبت على سمة العدل، تكنفتك الخيرات عاجلاً، والسعادات آجلاً، فتكون حينئذ موجوداً وإن عدمت، وباقياً وإن فنيت، وحاصلاً وإن فقدت، وثابتاً وإن نفيت، ومغبوطاً وإن رجمت، وحياً وإن مت، وظاهراً وإن بطنت، وجليلاً وإن خفيت، وواضحاً وإن أشكلت، وشاهداً وإن غبت، وقادراً وإن عجزت، ومعروفاً وإن أنكرت، وعالماً وإن جهلت؛ هناك تصل إلى غنى بلا قنية، وتنطق بلا عبارة، وتفعل بلا آلة، وتصيب بلا مشورة، وتعقل بلا مقدمة، وتبقى بلا آفة، وتلتذ بلا استحالة، وتنال بلا كدح، وتحيا بلا أذية، وتسعد بلا شؤم؛ آلهية ورثتها من البشرية، وربوبية وصلت إليها من العبودية، ومملكة استوليت عليها بالإنسية، وحال جلت عن رقم قلم وتزويق حبر، واستقصاء بيان، وتخيل وهم.
ثم قال: وقد مر الكلام فيما تقدم عن حال الإنسان في وجوده الثاني عن السعادة التي حصلت له، والحبور الذي ظفر به.
قال: وإنما تلطف هذا القول عليك لأنك تنظر إلى هذا الإنسان من قبل وهو في أستار الحس، وحد الجسم، وقشور البدن، وتحلل التركيب، وتصرف الطبيعة، وسيلان الطين، وذوبان العنصر. هذا مع سوء الاختيار، وفساد العقيدة، وقلة إيثار العفة والنجدة، والأخذ بالرخصة بعد الرخصة في مساعدة الشهوة، وتسلط الإرادات المردية المهلكة! ومتى يكون لهذا مرجوع وثمرة وفايدة؟ ولعمري لو قدس نفسه، وباين هواه، واختار الحق معتقداً، وآثر الخير مجتهداً، ونال من ضرورات الطبيعة مقتصداً، لانتعشت روحه، واستنار عقله، وذكت بصيرته، وصفت قريحته،