ذلك الكلام بين مراتب ثلاث: في الغاية التي لا غاية وراءها، وفي الوسط الذي يعتدل فيه، وفي الطرف الأدنى، وفيما بين ذلك كله بالأرجح والأنقص والأقل والأكثر. والتأويل يركب منشورها، والظن يسري في أطرافها، والقلة تجد سبيلاً إلى التشنيع عليه. فلذلك وأشباهه يكون ذلك. على أن هذا إذا تؤمل بالنصفة مقيساً إلى الطبائع المختلفة، والعادات المتباينة، والأعراض المتشعبة، كان في نصاب الحكمة ثابتاً، وعلى مدارجها جارياً، وإلى أصولها وفروعها نازعاً. ولولا ضيق أعطعان الناظرين في هذه الغوامض عن التبت والإنصاف لكان يتجلى هذا كل التجلي، ويزول عنه الخلاف كل الزوال.
قلت لأبي سليمان: أليس لو صفت الحال ها هنا من عارض خطأ وسانح تأويل ومضروب مثل، كانت أبلغ في المعنى وأنفى للتهمة من القذى؟ قال: بلى، ولكن ليس كل ما شهد به العقل بصفائه وطهارته وبعده من الدنس والدرن في أفقه وعالمه، يجوز أن يوجد ذلك على كماله في عالم الحس المشوب الكدر الذي لا ثبات له ولا مستقر. وكيف يجوز أن يوجد كل ما هو بالقوة في كل شيء بالفعل في حال واحدة؟ كأنك تريد أن تعري البشرية! وهذا ما لا يكون ولا يجوز أن يكون. بل تتفاوت مراتب أصحاب هذه القوة بحسب أنصابهم منها حين انقسمت عليهم فتحلوا بها على مقادير مزاجهم وطباعهم ونهوضهم واحتمالهم، وذلك التفاوت هو الذي يعلي حال هذا عن هذا، ويحط شأن هذا عن هذا، إلى أخر أفق الإنسانية المحتملة لغاية هذه القوة العالية الشريفة. ثم إن الأخلاق والألفاظ تابعة لها على ما يبدو به من ضعف العقل والقوة والبيان واللغز والتوسط.
ثم قال: والبلاء الأعظم في أمر الأنبياء أن من الناس من يظن بهم أنهم كذبة أصحاب حيل، ومنهم من يظن أنه لا يجوز أن يقع منهم شيء من القول والفعل يتعلق بما يوجب التهمة ويجلب الشك، وكان وراء هذين