فقال: لا ولكن يعرض له خيال كما في حديث تأبير نخل الأنصار ثم رجع عن رأيه، وقال لهم: أنتم أعلم بأمور دنياكم. ولا مانع من ذلك. ولولا هذه القوة التي على حدودها ومائيتها في أشخاص العلماء والبررة ما كان يصح حدس، ولا تصدق نفس، ولا تتحقق ظن، ولا يتوضح وهم. بل هذا أمر في غاية الغلبة والظهور، حتى في كثير من أنفس العوام.
ثم حكى هذا الفاضل، أن رجلاً كان له خدام، وكان مكارياً صاحب حمير، ويخدمه عليها غلمان ويثق به في عمله تجار كبار، وأنه في بعض طرقه وأسفاره سيب الحمير وطرح الأثقال وقال: ليأخذ من شاء ما شاء! وعاد إلى بيته على وله شديد لا ينطق بحرف، ولا يتعلق بأمر، ولا يستوضح خياله شيء، فساء أهله ذلك ومعارفه فعاتبوه وأطالوا عليه، فلما كان في بعض الأيام وقد احتوشوه بكل قول، ورموه عن كل قوس، توجه نحو الحائط وقال: يا قوم مالكم ومالي! وما هذا التعجب والإكثار؟ أما رأيتم من كان قاعداً على مزبلة فنبعت من بين يديه عين صافية بماء كالزلال عذب حلو فشرب منها وتبجح بها وعاشت نفسه بمجاورتها وكانت سبب ريه الذي لا ظمأ بعده وطهره الذي لا دنس معه؟! هذا تمام الحكاية.
قال قائل عند هذا الفصل لأبي سليمان: حدثنا عن قلبه في هذا الموضع، فإنه قد جرى ما لا مزيد عليه ولا تقصير معه، ولا بد من انتهاز كل فرصة يحتملها هذا الباب؟ فقال: الكلام الذي يأتي به صاحب هذه القوة يظهر محتملاً للطعن وهدفاً للتهمة، وطريقاً إلى الغاية الشنيعة.
فقال: هذا بالواجب إن صاحب هذه القوة يرسل الكلام إرسالاً بحدة قوته مرة، وبتوسطها أخرى، ولها في نفسها شأن بالإضافة إلى مزاج صاحبها، بل بالإضافة إلى كل حال عارضة، وإلى كل سبب واقع. والسنة عاملة عملها، والبشرية جارية على خاصتها، فحينئذ يخرج