من حديث النفس، لا يخلو من ذكره بالي وقلبي، ولا ينصرف عن مناغاته سري وجهري. على أنه لا صورة له عندي ولا عيار ولا تخيل. ولكن أبت علياؤه إلا شعوراً به، ووجداً ناله، وإعراباً عنه، وإيماء نحوه؟ فقال أبو سليمان: هذا خبر عن محل رفيع في الاستنارة، وشأن عجيب في حصول الطهارة، واتصال السفارة. وقد يظن من لا شرب له من هذه العين أن هذا وسواس يغلب من جهة المزاج إذا انحرف، والاعتدال إذا فقد، وليس كذلك، بل يوشك أن يكون مصطفى الغاية المتمناة، والنهاية المتواخاة.
لأن الوالدة يلحظ منها المبدأ الحسي فيعشق لذلك. ومن سجايا النفس الفاضلة، ومن عادة الفطرة النقية والطينة الحرة، أن يكون المبدأ ملحوظاً فيها وعندها. وهذا كله للشعور بالمبدأ الذي هو الأول بالإطلاق، مع أحوال تتناصر وتتشابه في خلال هذه الفكرة، تتفلل بها النفس تعللاً مؤنساً مطرباً ودافعاً للوقت موجباً.
قيل له: فلم لم تكن المنزلة دون الأم؟
فقال: الأم شأنها في الحس أعظم، وتدبيرها في المباشرة أظهر، وشفقتها بحسب ضعف قوتها أكثر، والأب هو الفاعل الحسي أيضاً، ولكن لا مباشرة له متصلة، ولا ولاية له متمادية. إنما هو أول فقط؛ والأم حاملة واضعة، وفاطمة ومرضعة، وحاضنة ومربية. فالكلفة عليها أغلظ وحسها للولد آلف، وهو بها أشعف.
ثم قال: وأما تخيل الموت فلأن النفس تلحظ المعاد وتنزع إليه وتتقلب نحوه، لأن المعاد هو المحيط الذي منه أبدأ وإليه يجب أن يكون المنتهى؛ ولاستعجام الحال في الثاني ما فتئ قلبه في الفكر فيه، فيعتريه السهر الشديد والفكرة الغالبة، نفوراً من الشقاء وتحسراً على ما يكاد يقرب من الخير؛ ولا سبيل للنفس إلى هذه العاقبة إلا بتخيله البدن الذي هو السور المانع