بينه وبين الخلاص من أسر هذا العالم وتدبيره بهذه الإستقصات. وهذه التخلية هي التي تسمى موتاً؛ وإنما هي تحول من مكان إلى مكان. فالفرق مصحوب، والخوف قائم، والظن مترجح، والأمل بين رياح عواصف. فكلما كان استعجام الحال أشد كان الأمل أضعف، وكلما كان الأمر أبين كان الشوق إليه أعظم.
فأما ما يتعلق بحديث الناموس الآلهي الشارع لطرق الخيرات القائدة إلى غاية السعادات، فإنه أيضاً إنما يشتد ذلك ويكثر ويتضاعف، لأن للنفس الفاضلة مباحث كثيرة في شأن من هذا نعته وكميته. تلك المباحث هي مسالك الخير المأمول، ومراقي السر المعلوم والمجهول، فالشغف والفكر والنظر إنما يتضاعف في شأن هذا الشخص ليقبس من نوره، ويهتدي بأمره ونهيه، ويظفر بتنقية النفس من جهته بقوله وفعله ويمنه وبركته.
فأما ما يرتقي عن هذه الحدود إلى الغاية الأولى والغاية القصوى، فذلك بطلب النفس وسكونها سكوناً لا قلق بعده، وطمأنينة لا يخطل بعدها. فبحق كانت هذه الخواطر سانحة، وهذه المشاعر فاتحة، وهذه الأواخر مشهودة، وهذه الأوائل موجودة. وبقدر تواليها وتعاقبها، وتوافيها وتقاربها، تكون نقطة الإنسان في اكتساب الآلهية الحسنة، والقنية الباقية، والأخلاق الآلهية من العلم والحمة، والجود والسماحة، والعفاف والهمة العالية، والشجاعة البينة، ولا خير والعدالة، والتقديس والنزاهة. فلا عدة للنفس الحكيمة، والطبيعة الكريمة، إلا هذه الفضائل التي هي ينابيع الخيرات، ومصابيح الغايات، وثمرات هذه الحياة. ثم قال: والله نسأل توفيقاً ندوم به على هذه المحجة البيضاء، واللقم الأفيح ثم نزداد بصيرة إلى التمسك بما عادت جدواه علينا عاجلاً وآجلاً، ببذل الغاية، وتقديم الحرص، ورفض الدنيا، ومجانبة قرناء البطالة وأبناء الهوى والشهوة، فإنه مجيب من دعاه، وكافي من استكفاه.