تعارف أنفسنا الهيولانية فنكون كأنا نصير خالصة بتردداتنا، فإذا رأينا ذاتنا استفدنا منها علوماً شريفة، وكنا نحن الناظر والمنظور إليه، والعالم والمعلوم، وقد قيل لأرسطو: لم لا نذكر العالم العلوي، ومنه هبطنا إلى هذا العالم؟ فقال: إنما صرنا لا نذكر العالم العلوي لأنا صرنا في هذا العالم الحسي واختلطنا بالأشياء الهيولانية وفارقنا ذلك العالم لأنا لا نقدر على أن نكون هناك وفينا لطخ من الأشياء الهيولانية، فصرنا كأنا لم نصر هناك لاستيلاء الهيولى علينا، وصرنا كأنا إنما بدئنا من هذا العالم لشدة ميلنا إليه وإلى الآثار التي كانت منه، فإن هذه الأشياء الهيولانية إنما هي آثارنا، وذلك إن كانت النفس هي التي أثرت الآثار الحسية بمعرفة العقل وتسديده إياها، وكنا نحن العقل فلا محالة أن هذه الآثار إنما هي آثارنا واختلطنا بها كنا ذاتا مكنونين وكأننا آثار من آثارنا، وإنما هي آثارنا لا نحن من آثارها، وقال: إنما صرنا لا نذكر ذلك العالم لأنا قبل أن نصير في هذا العالم لم نكن أصحاب ذكر، وذلك أن الأشياء هناك حاضرة ظاهرة، وليس هناك مستقبل ولا ماض، بل كلها حاضرة بحضورها الآن عندنا، فلذلك لم نكن نحتاج إلى الذكر لأنا لم نكن من أبناء الزمان بل الزمان من أبنائنا، لأنا كنافي حيز الدهر، فحيث الدهر فليس هناك تذكر البتة، وإنما نحتاج إلى التذكر في الأشياء الزمانية التي تكون مرة وقد لا تكون مرة، فحيث التمني هناك التذكر، فأما الموضع الذي ليس للتمني فيه مساغ فليس هناك تذكر. وقال أيضاً: الأشياء التي علمناها لم نعلمها في وقت من الأوقات فنحتاج إلى أن نذكرها، بل قد علمناها بنوع الدهر لا بنوع الزمان. وقال أيضاً: إنا قبل أن نتلطخ بأوساخ الهيولى ونحن في العالم الأعلى كنا علماء ولم نكن أصحاب ذكر، ولم نكن نحتاج إلى أن نذكر ما قد علمنا، لأن الأشياء قد علمناها حاضرة تحت أيدينا لا يغيب منها شيء ولا يستتر، وقال: كل أثر لزمنا في هذا العالم الحسي فإنه لا يلزمنا في ذلك العالم العقلي مثل التمني والحس والوهم والقياس والتذكر، وما أشبه هذه