فقال: لعمري إن في إيضاحه لصعوبة وعسراً، وإن كان العقل قد قضى بما قدمته، وعلى صعوبة ذلك فإني اولف على التقريب قولاً عسى أن يكون للسامع فيه رضى ومقنع، إن لم يكن فيه مرآى ومسمع.
ثم ابتدأ فقال: قد وجدنا في أفعالنا ما يبدر في بعض الزمان من غير قصد مفروض، ولا مراد متوجه، ويشتمل مع ذلك على النظم والإتقان والصواب، والإحكام، والمواءمة والسلامة، حتى نتعجب من أنفسنا غاية التعجب ونتهادى الحديث به، وليس منا أحد إلا وهو يجد هذا لنفسه من فعله، أعني البادر والخارج عن قصد متقدم، وعزم مستحكم، ورأى مثبت، ومقدمة مرتبة، وحتى يظن كثير منا أن ذلك انقلب بلا مؤامرة وانبجس بلا فكرة، وانبعث بلا روية، وتم بلا قصد، وحدث بلا تقدمة وعرض بلاعلة، وكأنه كالشيء الباين بنفسه، القائم بذاته، وعند اتفاق الأمر على التئامه وانتظامه، يكثر شكرنا لله عز وجل وحمدنا إياه، فترى أنه كان صنعاً منه لنا، ولطفاً منه بنا، ويداً سبقت بالحسنى إلينا، ونعمة من الله تعالى توالت علينا، وقد تتصل ببعض أفعالنا وأعمالنا أيضاً بالقصد والغريزة والرأي والهمة والروية، وسائر مقدمات العقل وأوائله، ودواعيه وتوابعه، ومع ذلك تزل عن شرح النظام، وتعدل عن طريق التمام، وتحيد عن سنن الغاية، ونزول عن بلوغ الحد والنهاية؛ فالأول البادر منها منهاج لنا أن نعلم أن الفاعل الأول أحكم فعله ذلك الإحكام بل أجل منه أيضاً كثيراً وإنما ضربنا هذا المثل تمثيلاً، وأن الذي كان منا في الفينة بعد الفينة، والفرط بعد الفرط، هو الذي يكون منه على الديمومة والسرمدية على هيئة أشرف مما يعتاد ويستأنف، والثاني البادر منه أيضاً طريق لنا إلى أن نعلم نقصنا في كمالنا، وعجزنا في قدرتنا، لأن القدرة تخص، والرؤية تتقدم، والغرض ينتصب، والفعل يمكن، والتحليل يقع، ومع ذلك لا يتم الفعل ولا يصح المقصود. وفي البادر الأول يتم ذلك كله، وليس هناك داع قوي ولا ضعيف، ولا شيء