ما لا يدركه المحدق ببصره من غيرهم. وذلك أن الحس محطوط عن سماء العقل، والعقل مرفوع عن أرض الحس، فمجال الحس في كل ما ظهر بجسمه وعرضه، ومجال العقل في كل ما بطن بذاته وجوهره. والحس ضيق الفضاء قلق الجوهر، سيال العينن مستحيل الصورة، متبدل الاسم، متحول النعت. والعقل فسيح الجو، واسع الأرجاء، هادئ الجوهر، قار العين، واحد الصورة، ثابت الجسم، متناسب الحلية، صحيح الصفة. والفكر من خصائص النفس الناطقة. والنطق في النفس بتصفح العقل بنور ذاته، والحس رائد النفس بالوقوع على خصائصه. وكما قد صح أن الحس كثير الإحالة والاستحالة، فكذلك قد وضح أن العقل ثابت على ما له في كل حالة. والحس يفيدك ما يفيد في عرض الآلة التي أصلها المادة؛ والعقل يفيدك ما يفيد على هيئة محضة، لأنه نور.
قيل: لم! ألسنا نرى عاقلاً يتحول من معقول إلى معقول، وينتقل من رأي إلى رأي، وينصرف من معتقد إلى معتقد؟ فهل هذا إلا لأن السيلان الذي ادعى في الحس تدرب إليه وعمل فيه؟ وما هكذا يرى من اعتقد معتقداً بشهادة الحس! فإنه أثبت رأياً، وأرسخ يقيناً، وأظهر سكوناً، وعلى هذا: ألحس يفيد العلم الذي تسكن معه النفس. والعقل يفيد العلم الذي كأنه مظنون؟
فقال: هذا كلام من لم يرتض بحكمة القدماء، ولم يرتق عما عليه العامة والضعفاء؛ والأحساس حفظك أو من إليه من جهة النفس لا من العقل ولا من جهته، وليس لها حكم على شيء من أحواله إلا من جهة النطق النفسي، والذي يوضح هذا أن البهائم كلها ذوات إحساس قوية، وليس لها قضايا منها ولا نتائج بها، لأنها خادمة للقوة القاضية بالحق، الدالة على الصحة، المفضية إلى المقدمات، المستخرجة للثمرات، وإنما وقع لك هذا القول لأنك ظننت أن ما يعتقده كثير من الناس الذين يظنون بأنفسهم