الإثبات، تجرد أو لم يتجرد، وإذا كان كذلك كان دالا على الإثبات، فى قولك:(ما ضرب زيد) وهو محال؛ لأنه يلزم أن يكون قد أثبت الضرب ونفاه فى حال واحدة. والذى يوضح ذلك أن (إن) لما كانت دالة على الإثبات، و (ما) دالة على النفى امتنع دخول (ما) على (إن) فلا يجوز (ما إن زيدا قائم) فلو كان اللفظ من غير تجرد يدل على الإثبات لتنزل قولك: (ما زيد قائم) منزلة قولك: (ما إن زيدا قائم)، وهذا واضح. وكذلك (ليس زيد قائما) لما كان دالا
بلفظه على النفى - استحال دخول حرف الإثبات عليه، فلا يجوز (والله لليس زيد قائما) فكما يمتنع دخول الإثبات على النفى يمتنع دخول النفى على الإثبات؛ لاستحالة أن يكون الشئ مثبتا منفيا فى حالة واحدة، فإن قلت: فقد أدخلوا (إن) على (ما) فى قولهم: (إنما أنا بشر) ونحوه؛ قلت: ليست (ما) هنا هى النافية، وإلا كان المعنى إثبات نفى البشرية، والمراد إثباتها لا نفيها، وهذا المحال الذى ألزمناه، إنما لزم من تقدير اللفظ دالا على الإثبات بنفسه، فعلم أن ذلك باطل، لكنه دال على مجرد النسبة من غير تعرض لنفيها، ولا إثباتها، فإن أردت النفى جئت بحرف النفى، وإن أردت الإثبات جردته من علامة النفى وغيره، وكان التجريد دالا على الإثبات، وإذا دخل حرف النفى زال التجريد الدال على الإثبات، فلم يجتمع النفى والإثبات، فإن قلت: لم لا يجوز أن يكون اللفظ نفسه دالا على الإثبات وشرط دلالته عليه تجرده من علامة غيره؟ قلت:
الجواب عن هذا من وجهين:
(أحدهما): أن هذا تسليم للحكم الذى ادعيناه، ومنازعة فى العبارة؛ فإذا كان اللفظ لا يدل على الإثبات إلا إذا جرد، فكأن الواضع قال: متى جردت هذا اللفظ فاعلموا أننى أردت الإثبات، ومتى لم أجرده فاعلموا أنى لم أرد الإثبات! فقد جعل التجريد علامة على الإثبات، فتسميه أنت شرطا أو ما شئت فلا مشاحة فى التسمية.
(الوجه الثانى): هو أن دلالة اللفظ على المعنى ليست لمناسبة بينهما، بل لأنه جعل علامة عليه، ومعرفا له بطريق الوضع، فإذا كان التعريف مشروطا بشئ غير اللفظ، يعدم بعدمه، ويوجد بوجوده - لم يكن اللفظ هو المعرف، إنما المعرف ذلك الشئ، ولا سيما وقد رأينا اللفظ مفيدا لشئ آخر غير الإثبات؛ وهو النسبة الذهنية التى هو مفيد لها فى الإثبات وفى غيره، والتجريد لا يفيد معنى آخر سوى الإثبات، ورأينا التجريد لا ينفك عن إفادة الإثبات، واللفظ ينفك عن إفادة الإثبات، فالحكم بأن الإثبات مستفاد من التجريد الذى لا يحصل بدونه ولا ينفك عن إفادته، وله فائدة غيره أولى من الحكم بأنه مستفاد من اللفظ الذى ينفك عن إفادته، وله فائدة غيره.