الالتفات يحصل به الفرار من الملل لا يصح، لأن الكلام الحسن لا يمل، ورده صاحب الفلك الدائر بأن المستلذ قد يمل لكثرته، وربما اختص مواقعه - أى مواضع وقوعه بلطائف - كما فى الفاتحة فإن العبد إذا ذكر الله تعالى وحمده ثم ذكر صفاته التى كل صفة منها تبعث على شدة الإقبال، والخطاب يجد من نفسه حاملا لا يقدر على دفعه فيخاطب من هذه صفاته مستعينا على قضاء مهماته، وقد ذكر فى الالتفات فى إياك لطائف غير هذه.
(تنبيه): اعلم أنى لم أر من أوضح العبارة عن حقيقة الالتفات، وربما توهم قوم أنه لفظى، وربما أشكل التمييز بين حقيقته وحقيقة التجريد وحقيقة وضع الظاهر موضع المضمر وعكسه، ثم فى كونه حقيقة أو مجازا، فالكلام فى أربعة أمور:
الأول: فى كشف الغطاء عن حقيقته: اعلم أن الالتفات نقل الكلام من أسلوب لغيره كما سبق، وهو نقل معنوى لا لفظى فقط، وشرطه أن يكون الضمير فى المنتقل إليه عائدا فى نفس الأمر إلى الملتفت عنه، يحترز عن مثل: أكرم زيدا وأحسن إليه، فضمير أنت الذى هو فاعل أكرم غير الضمير فى إليه وليس التفاتا، وإنما قلت:
فى نفس الأمر لأنه بطريق الادعاء يعود لغيره، فحينئذ إذا كان الضمير الأول فى محله باعتبار الواقع فى نفس الأمر فقلت: إنى أخاطبك فأجب المخاطب كنت أعدت الضمير فى المخاطب، وهو ضمير غيبة على نفسك، وليس ذلك وضعا لضمير الغائب موضع ضمير المتكلم، بل جردت منك مثل نفسك وأمرته بأن يجيبه فضمير الغيبة واقع موقعه، وكذلك: وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١) جرد من نفسه حقيقة مثلها وخاطبها. وفى قوله: طحا بك على رأى السكاكى جرد من نفسه حقيقة مثلها وخاطبها، فالضمير واقع فى محله فهو التفات وتجريد، وعلى رأى غيره هو تجريد فقط. وفى قوله: تكلفنى التفات على القولين، ولا نقول: إنه أعاد الضمير على غير الأول فيلزم أن يكون الضميران - وهما الكاف والياء - لشيئين، بل أعاده على الأول مدعيا أنه غير الثانى، فإن الحقيقة المجردة هى باعتبار الحقيقة عين المجرد عنها وباعتبار التجريد غيرها، فذلك