للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ونستطيع أن نَعُدَّ هؤلاء أول الأساتذة الرسميين بالأزهر؛ فقد أدوا مهمتهم العلمية تحت إشراف الدولة, ولقاء أجرٍ ثابتٍ منها.


وهو إلى جانب ذلك, عالمٌ فَذٌّ, ووزيرٌ خطيرٌ, وعبقريةٌ سياسيةٌ نادرةٌ -يهوديّ نشأ ببغداد, وغادرها إلى الشام في شبابه للعمل بالتجارة حينما أثقلته الديون, فسعى إلى مصر في حكم كافور, ودفعه الطموح والتوثب إلى المجد أن يسلك الإسلام وسيلةً وسبيلًا, وقد كان, بلغه أن كافورًا يقول: لو كان هذا مسلمًا لصحَّ أن يكون وزيرًا- فدرس قواعد الإسلام وشرائعه سرًّا, ثم غشي جامع عمرو سنة ٣٥٦هـ وصلى به الصبح في موكب حافل, ثم ركب إلى كافور, فخلع عليه, وإذ ذاك توجس وزير مصر, جعفر ابن الفرات في نفسه خيفة منه, وخشى من تقشعه, وبلوغ نفوذه, فدسَّ له, وأوغر عليه الصدور, حتى فرَّ إلى المغرب؛ ليلحق بالمعز لدين الله وهو يهيء مشروعه لغزو مصر, فقدَّر المعز مواهبه, وأظله بعطفه وتكريمه, إلى أن تمَّ فتح مصر, فقلده شئون الخراج والأموال والحسبة والأحباس, وسائر الشئون العالية الأخرى, وهو في كل هذا دقيق بارع.
ثم إن العزيز بالله حين انتهى إليه الأمر بعد أبيه المعز لم يغمطه حقه, بل فوّضَ إليه النظر في شتى أموره, ولقبه بالوزير الأجلِّ, وغدا أقوى رجل في الدولة على رغم أن العزيز اعتقله استجابةً للوشاة, ثم أكرمه وقدره بعد براءته.
ومَنْ يدري, فلعل الله أراد أن يكسب الأزهر هذه الصفة الجامعية, ويدوي في ربوعه صوت العلم والأدب والثقافة؛ فقيض له ذلك العالم الأديب -يدع دينه الضالّ إلى دين الله, وهداه, ويدعو إلى بثِّ العلم والأدب في جنبات الأزهر؛ فيسير العلماء والأدباء من بعده ركضًا, وتنمو الفكرة, ويتطور الأزهر, فإذا هو كما ترى كعبة تُحَجُّ, ومنارة تُقْصَدُ, ومنهل عذب يرتوي منه كل ظامئ.
ومهما يكن من شيء, فابن كلس مع أنه سياسيٌّ ووزيرٌ ورجل دولةٍ, عالم أديب, وأينما حلَّ, وحيثما ارتحل يعقد المجالس العلمية, والندوات الأدبية, ينتظم في سلكلها الفقهاء والأدباء والشعراء, ويشجع على نفاقها بالفكر, وبالمناظرة, وبالتوجيه, وبالمال

<<  <  ج: ص:  >  >>