ومما جنح إليه كثير من الشعراء المحدثين الثورة على الأوزان الشعرية زاعمين أن التزام وزن واحد، وقافية واحدة يصدعن الإطالة، ويعوق دون إحداث الملاحم في الشعر العربي، وقد أطلقوا على القصيدة التي تجمع أوزانا مختلفة "مجمع البحور"، والتي تضم أكثر من قافية "الشعر المرسل"، ولست أعرف لمذهبهم هذا من سبب، ولا لثورتهم تلك من علة، إلا عجزهم عن الإطالة وإعياء نفسهم عن الاسترسال، وضعف معينهم الشعري عن الإفاضة، والتدفق فيما اتحد نغمة ولحنا.
وقد كان من أثر ذلك أن اختلت نغمة الشعر واضطربت ألحانه، ومجتها الأسماع ولو أن هؤلاء الشعراء قنعوا بما استحدث من الأنواع التي يستريح الشاعر فيها من التزام القافية كالموشح، والمزدوج والمسمط التي اخترعت من قبل لحفظوا جمال الشعر، وأبقوا على روعته.
نعم إن المرحوم "شوقي بك" ارتضى لنفسه الجمع بين الأوزان المختلفة، والتنقل من بحر إلى بحر في رواياته الشعرية، ولكن ذلك مذهب في الشعر سائغ لا ينكسر، إذ أن "شوقي" لم يعمد إلى ذلك عن تقاصر منه أو إعياء، وهو صاحب المطولات التي تطول، وتطول حتى يخيل إليك أن صاحبها لا يفرغ منها، وهو في آخرها كأولها قوة وصفاء لفظ، وإشراق ديباجة، ولكنه عمد إلى ذلك في رواياته التمثيلية التي هي أداة التسلية ومجال التلهي، ومن شأن ما هو كذلك أن لا يكون على الطول الممل، والإسهاب المسئم.
على أن "لشوقي" مندوحة في هذا الصنيع إذ أن الروايات إنما تقوم على ألسنة مختلفة، وأبطال متعددة، ولكل منهم أن ينشد على وزن غير ما ينشد عليه الآخر، وأن يغاير بقافية غير قافيته.