سبق أن مرَّ معنا ذكرُ أنواع استفتاحات النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم للصلاة، وبيانُ شيء من معانيها ودلالتها، وسبق الإشارةُ إلى أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَم يكن يداومُ على نوعٍ من تلك الأنواع، بل يستفتح بهذا تارةً وبهذا تارة، ومَن يتأمَّل في هذه الاستفتاحات المأثورة عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يجدُ أنَّها على ثلاثة أنواع: نوعٌ فيه الثناءُ على الله، ونوعٌ فيه إخبارٌ من العبد عن عبادة الله، ونوعٌ فيه دعاءٌ وطلب.
وقد قرَّر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أصلاً عظيماً في هذا الباب وأطال في ذِكر شواهده ودلائله، ألا وهو أنَّ أعلى الذِّكر ما كان ثناءً على الله، ويليه ما كان خبراً من العبد عن عبادة الله، ويليه ما كان دعاءً من العبد، ثم قال رحمه الله عقب ذلك: "إذا تبيَّن هذا الأصل، فأفضلُ أنواع الاستفتاح ما كان ثناءً محضاً، مثل (سبحانك اللَّهمَّ وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدُّك، ولا إله غيرك) ، وقوله:(الله أكبرُ كبيراً، والحمدُ لله كثيراً، وسبحان اللهِ بُكرةً وأصيلاً) ، ولكنْ ذاك فيه من الثناء ما ليس في هذا، فإنَّه تضمَّن ذِكرَ الباقيات الصالحات التي هي أفضلُ الكلام بعد القرآن، وتضمّن قوله:(تبارك اسمك وتعالى جدُّك) وهما من القرآن أيضاً، ولهذا كان أكثرُ السلف يستفتحون به، وكان عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه يجهر به يُعلِّمُه الناسَ.
وبعده النوعُ الثاني وهو الخبر عن عبادة العبد، كقوله:(وجَّهت وجهي للذي فطر السموات والأرض.. الخ) ، وهو يتضمَّن الدعاء، وإن استفتح العبدُ بهذا بعد ذلك فقد جمع بين الأنواع الثلاثة، وهو أفضلُ الاستفتاحات كما جاء ذلك في حديثٍ مُصرَّحاً به، وهو اختيار أبي يوسف وابن هُبيرة الوزير، ومن أصحاب أحمد صاحبِ الإفصاح، وهكذا أستفتحُ أنا.