للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بيته بيده، ويحلب الشاة، ويخرز النعل، ويتلطف إليهن، ويداري غضبهن، ويعدل بينهن، ويراعي ما جبلن عليه من الغيرة، ويحتمل هفواتهن، ويرفق بصغيرتهن، وهكذا عاش الرسول البشر عيشة إنسان لا ملاك، تلتصق خطواته بالأرض وقلبه معلَّق بالسماء، يهفو إلى ما عند الله، ويهتف متواضعاً "إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد" (١).

ولنعرض لنماذج أخرى من حياة الرسول البشر في بيته: حيث تعيش أمهات المؤمنين في غرفهن الصغيرة بجوار المسجد النبوي، تمتزج حياتهن بأصوات الأذان للصلوات، ويشهدن جموع الناس مقبلين مدبرين، يصلون ويستمعون لأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ويشتركن في بيان تعاليم الإسلام، وخاصة في شؤون المرأة، حين يتعذر على النبي صلى الله عليه وسلم - لحيائه - البيان. ثم لهن حياة خاصة مع الرسول صلى الله عليه وسلم حافلة بالعبادة والعلم، مليئة بالعبر، دافقة بالخير. ولا تخلو من الجدل والخصومة حينا، والغيرة حينا آخر. قالت عائشة رضي الله عنها: "ما علمت حتى دخلت عليَّ زينب بغير إذن وهي غضبى، ثم قالت: يا رسول الله أحسبك إذا قبلت لك بنية أبي بكر ذريعتيها - أي ساعديها -؟ ثم أقبلت عليَّ، فأعرضت عنها، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: دونك فانتصري. فأقبلت عليها حتى رأيتها وقد يبس ريقها في فيها ما تردُّ عليَّ شيئاً، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتهلّلُ وجهُه" (٢).

وهنا نلمس تقدير النبي صلى الله عليه وسلم لغيرة الضرائر من بعضهن، ومراعاته للفطرة، فقد ترك زينب تفرغ غضبها وأذن لعائشة أن ترد عليها، وعدل بين زينب - وهي بنت عمه وزوجه - وعائشة - وهي بنت صاحبه وزوجه - ولم يغضب من هذه الملاحاة، فهي أمر طبيعي في حياة الضرائر. بل لم تتغير ملامح وجهه إلى العبوس لتكدير صفوه، بل علته ابتسامة رقيقة وهو يشهد انتصاف عائشة من زينب.


(١) ابن سعد: الطبقات ١/ ٢٣ بإسناد صحيح.
(٢) البخاري: الأدب المفرد ٥٥٨ بإسناد صحيح

<<  <  ج: ص:  >  >>