واضحاً، ومن شأن الشرع إذا كانت ماسة بالدين كهذه أن يكشف عنها. وكلا هذين منتف، أما الشرع فإنما جاء بتقرير هذه القضية وتثبيتها وتأكيدها بنصوص صريحة تفوق الحصر، بل أصل بناء الشرائع على نزول الملك من عند الله عز وجل بالوحي على أنبيائه.
وأما النظر فقد اعترف الغزالي بأن أقصى ما يمكن من مخالفته لهذه القضية أنه ربما حصل الإنس بتكذيبها لمن كثرت ممارسته للأدلة العقلية ... ، ففي هذا أن تلك الأدلة كلها فضلاً عن بعضها لا تثمر اليقين، ولا ما يقرب منه، ولا ما يشبهه، وإنما غايتها أنه ربما حصل الإنس لمن كثرت ممارسته لها.
وقد شرح الغزالي نفسه في (المستصفى) ج ١ ص ٤٣ يقين النفس بقوله: «أن تتيقن وتقطع به، وينضاف إليه قطع ثان، وهو أن تقطع بأن قطعها به صحيح، وتتيقن بأن يقينها فيه لا يمكن أن يكون به سهو ولا غلط ولا التباس، فلا يجوز الغلط في يقينها الأول، ولا في يقينها الثاني، ويكون صحة يقينها الثاني كصحة يقينها الأول، بل تكون مطمئنة آمنة من الخطأ، بل حيث لوحكى لها عن نبي من الأنبياء أنه أقام معجزة وادعى ما يناقضها، فلا تتوقف في تكذيب الناقل، بل تقطع بأنه كاذب، أو تقطع بأن القائل ليس بني، وأن ما ظن بأنه معجزة فهي مخرقة، فلا يؤثر هذا في تشكيكها، بل تضحك من قائله وناقله، وإن خطر ببالها إمكان أن يكون الله قد أطلع نبياً على سرٍ به انكشف له نقيض اعتقادها فليس اعتقادها يقيناً، مثاله قولنا: الثلاثة أقل من الستة ... »
فأنت إذا عرضت قوله:«ربما حصل لك الإنس ... » على هذا اليقين الذي شرحه علمت أن بينهما كما بين السماء والأرض، فثبت أن ما سماه أدلة عقلية موجبة إثبات موجود ليس في جهة، ليس معنى ايجابها ذلك إثمار اليقين ولا ما يقاربه ولا ما يشبهه، فإذا كانت كذلك فكيف تسوغ أن اعرض بها القضية البديهية الواضحة؟
فإن قيل: لكنها تزلزل اليقين بتلك القضية فلا تبقى يقينية؟