فإن قيل: فعلى هذا أيضاً يبقى الإشكال بحاله أو أشد فإن قوله: «هذا ربي» يكون خبراً مخالفاً للواقع ظاهراً وباطناً، وتلك الثلاث إن كان الخبر فيها مخالفاً الواقع فظاهراً فقط.
قلت: تلك الثلاث كانت عمداً أي أن إبراهيم كان يعلم أن الظاهر غير واقع، وأم قوله:«هذا ربي» فخطأ محض غير مؤاخذ به (١) . والمتبادر من قولهم «لم يكذب فلان» نفي أن يكون وقع منه إخبار بخلاف الواقع يلام عليه، وفي (صحيح مسلم) في أحاديث البكاء على الميت «فقالت عائشة: يغفر الله لأبي عبد الرحمن أما إنه لم يكذب، ولكنه نسي أو أخطأ» وفي رواية «قالت: إنكم لتحدثون عن غير كاذبين ولا مكذبين ولكن السمع يخطيء» . وقولهم:«كذب فلان» المتبادر منه أنه تعمد أو أخطأ خطأ حقه أن يلام عليه، ومن ذلك حديث «كذب أبو السنابل» وقول عبادة: «كذب أبو محمد» وقول ابن عباس: «كذب نوف» وما أشبه ذلك، والكذب لغة هو مخالفة الخبر - أي ظاهره الذي لم تنصب قرينة على خلافه - للواقع مطلقاً، لكن لشدة قبح الكذب وأن العمد أغلب من الخطأ كان قولنا:«كذب فلان» مشعراً بذمه فاقتضى ذلك أن لا يؤتى بذلك حيث ينبغي التحرز عن الإشعار بالذم. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
هذا، ولم يرد إبراهيم عليه السلام بقوله:«هذا ربي» ، رب العالمين، وإنما بنى على ما كان يقوله قومه في الكواكب أن أرواح الملائكة متعلقة بها مدبرة بواسطتها ما أقدرها الله عليه، أو شافعه إليه، ولما رأو اأن الكواكب لا تكون ظاهرة أبداً اتخذوا الأصنام تذكارات لها ولأرواحها، وكانوا يعبدون الأصنام والكواكب
(١) هذا هو الجواب عن عدم ذكرها مع الثلاث، ثم ظهر لي جواب آخر، وهو أن قوله «هذا ربي» لم يكن إخباراً منه لغيره بل لعله لم يكن عنده أحد وإنما قال ذلك على وجه الاعتراف كالمخاطب لنفسه، وجواب ثالث وهو أن القرائن تدل أنه إنما بنى على ظنه فكأنه قال: «أظن هذا ربي» ومن ظن أمراً فأخبر بأنه يظنه فهو صادق وإن أخطأ ظنه كما مر ويأتي إيضاحه. المؤلف