بل مع أمور تنضم إليه لا يدرى ما هي ولا كيف حصلت ولا من أين جاءت. أشار بعضهم إلى القدح في هذا الجواب بأن الجزم مقدوح فيه كما يأتي، أي أن العقل قد يجزم ثم يتبين خطاؤه، وبأننا إذا تأمنا أمثلة الغلط منها ما كانت عقولنا تجزم فيها بالصحة قبل أن تشعر بالدليل الدال على الغلط. أجيب بأن ذاك الجزم ظن قوي ليس هو بالجزم اليقيني المشروط، وهذا الجواب لا يجدي لاشتباه الجزمين، غاية الأمر أنكم سميتم ما تبين غلطه ظناً، وما لم يتبين غلطه يقيناً، ولوفرض أنه الغلط فيبعض ما تسمون الجزم فيه يقيناً لعدتم فسميتموه ظناً.
ومما يقوي ذلك القدح أنه توطأ جماعة على تشكيك إنسان في بعض ما يحس به ويجزم، ولم يشعر بتواطئهم لأمكنهم تشكيكه، بل ربما يكفي لتشكيكه واحد، بل يتشكك بنفسه إذا كان يرى أن هناك ما يحتمل التغليط كالسحر.
هذا وقد رد علماء الطبيعة المتأخرون عدة نظريات ذهب إليها الفلاسفة مسندين لها إلى الحس، ومن ذلك ما كانوا جازمون به ويبنون عليه مقالات أخرى حتى في الإلهيات، وتعد ذلك من اليقينيات التي يوجب أسلاف الكوثري رد ما يخالفها من كلام الله تعالى وكلام رسوله.
فإن قيل: فماذا يقول السلفيون؟
قلت: من تدبر أمثلة الغلط وجدها على ضربين، ضرب يخشى أن يكون سبباً قريباً لمضار ومفاسد، وضرب لا يخشى فيه ذلك، لكن يخشى أن يغلط فيه المتعمقون فيبنوا عليه نظريات تعظم مفاسدها. ووجد الضرب الأول جميعه مما ينكشف فيه الحال عن قرب فمنه أن الإنسان إذا تحاول (١) رأى الشيء أثنين، ولوكان هذا مما يتكرر للإنسان بغير شعوره لأو جب ضرراً ومفاسد، فاقتضت عناية
(١) أي صرف إحدى عينيه عن الأخرى حتى ترى كل واحد منهما غير ما تراه الأخرى. م ع