قلت: فهذا يوضح سقوط تشبثهم بقوله تعالى: «ليس كمثله شيء» ، وقوله:«ولم يكن له كفواً أحد» ، ويبين ما قدمناه في ذلك في الباب الثالث. ولله الحمد.
ثم أقول: التجرد المزعوم إنما حاصل عند العقول الفطرية العدم وذلك مناف للوجود فضلاً عن الوجوب، وعلى فرض أنه لا ينافي الوجود، فأي فرق يعقل بين ذاتين مجردتين حتى تكون هذه روح بعوضة وتلك ذات رب العالمين؟ فأما ذاتان مشتركتان في مطلق الأينية، فإن معقولية الفرق بينهما بغاية الوضوح، بل يجيئ ذلك في الجسمية وإن كنا لا نقول أنه سبحانه وتعالى جسم. فأما زعمهم أن في أحكام مطلق الأينية ما ينافي الوجود. فإنما مستندهم فيه تلك الشبهات التي تقدم أنه لا يلزمنا التشاغل بها للعلم ببطلانها مع اعتراف أشد أنصارها تحمساً ومجازفة بأن غايتها أنها ربما تورث منطالت ممارسته لها الأنس بمقتضاها، ومن تدبر تلك الشبهات علم وهنها.
يقول الفلاسفة: إن ذات الله تعالى وجود. ومال إلى هذا كثير من متأخري المتكلمين.وأو رد عليهم أن الوجود عندهم أمر عدمي. فأجابوا بأنه لا مانع من تفاوت الأفراد، فيكون هذا الفرد المعروف من الوجود أمراً عدمياً، وفرد آخر منه واجب الوجود لذاته، ومن العجب أن يزعموا معقولية هذا، وينكروا معقولية التفاوت في الأينية، أو قل في الجسمية. (١)
الثالثة القائلون: جسم لا كالأجسام، يقولون لا حاجة أن تلزمونا ذلك بإثباتنا الفوقية، بل نحن نلزمكم ذلك بما اعترفتم به أنه سبحانه موجود قائم بنفسه، بل ذلك
(١) مجاراة للذين يزعمون أن إثبات الصفات من العلووالأستواء والنزول والوجه واليدين لله عز وجل يستلزم أن يكون جسماً. فيقال لهم على سبيل التنزل والمجاراة: إذا قلتم بتجرد ذات الله وتجرد العقول النفوس الناطقة مع عدم المشابهة فقولوا بإثبات النصوص الشرعية وقولوا لمن يقول بلزومها للجسمية بعدم المماثلة والمشابهة، وحينئذ تكونون قد وافقتم الشرع والفطرة وسنن المرسلين. م ع.