فقد اتضح بحمد الله عز وجل أن النظر العقلي المتعمق فيه كثيراً ما يوقع في الغلط، إما بأن يبنى على إحساس غلط لم يتنبه لغلطه، وإما بأن يبنى على قضية وهمية يزعمها بديهية عقلية، وإما بأن يبنى على شبهة ضعيفة فيرد بها البديهية العقلية زاعماً أنها وهمية، وإما بأن يبنى على لزوم باطل يراه حقاً، وقد تبين بالفلسفة الحديثة المبنية على الحس والتجربة وتحقيق الاختبار بالطرق والآلات المخترعة - غلط كثير من نظريات الفلسفة القديمة في الطبيعيات، وكثير من تلك النظريات كانت عند القوم قطعية يبنون عليها ما لا يحصى من المقالات حتى في الإلهيات، فما ظنك بغلطهم في الإلهيات؟ وهم يعتمدون فيها على قياس الغائب على الشاهد، فقد يقع الغلط في اعتقاد مشاركة الغائب للشاهد في بعض الأمور، أو في اعتقاد مخالفته له، أو في اعتقاد اللزوم في الشاهد أبنائه على استقرار ناقص أو غيره من الأدلة التي لا يؤمن الغلط فيها، أو في اعتقاد أنه غير محقق إذا لزم في الشاهد لزم في الغائب، أو في تركيب القياس، أو غير ذلك مما يشتبه ويلتبس، كما يتضح لمن طالع كتب الكلام والفلسفة المطولة، ولاسيما إذا طالع كتب الفريقين المختلفين كالأشاعرة والمعتزلة، فالنظر العقلي المتعمق فيه مع أنه لا حاجة إليه في معرفة الحق كما تقدم فهو مظنة أن يشكك في الحقائق ويوقع في اللبس والاشتباه والضلال والحيرة، وتجد في كلام الغزالي وةغيره ما يصرح بأن النظر العقلي المتعمق فيه لا يكاد ينتهي إلى يقين، وإنما هي شبهات تتقارع وقياسات تتنازع، فأما أن ينتهي الناظر إلى الحيرة، وأما أن يعجز فيرضى بما وقف عنده ولاسيما إذا كان موافقاً لهواه، وأما أن لا يزال يتطوح بين تلك المتناقضات حتى يفاجئه الموت.
وقد قال الغزالي في (المستصفى) ١ / ٤٣: «أما اليقين فيشرحه أن النفس إذا أذعنت للتصديق بقضية من القضايا، وسكنت إليها فها ثلاثة أحوال:
أحدها: أن تتيقن وتقطع به إليه قطع ثان وهو أن تقطع بأن قطعها به صحيح وتتيقن بأن يقينها فيه لا يمكن أن يكون به سهو ولا غلط ولا التباس فلا