للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قلت: أما زلزلة اليقين في جميع النفوس فممنوع. وأما زلزلته في بعض النصوص فلا يقدح، ألا ترى أن من العقلاء من شك في البديهيات كلها وقدح فيها كما مر في الباب الأول؟ أولا ترى أن الغزالي نفسه صرح في كتابه (المنقذ من الضلال) بأنه نفسه كان يشك في الحسيات والبديهيات، وأنه بقي على ذلك نحو شهرين، وقد تقدم حكاية ذلك في الباب الأول (١) .

فالحق أن اليقين قد يطرأ عليه التفات إلى الشبهات ورعب منها إذا حكيت عن جماعة اشتهروا بالتحقيق والتدقيق، وأنهم اعتمدوها فيعرض التشكك، وهذا هو الذي ربما يعرض هنا، بما ذكره الغزالي من كثرة الممارسة، وقد تقدم في الباب الأول أن القادحين في البديهيات احتجوا بقولهم: «من مارس مذهباً من المذاهب برهة من الزمان ونشأ عليه فإنه يجزم بصحته وبطلان ما يخالفه» . (٢) ولم يجب مخالفوهم إلا بقولهم: «الجواب أنه لا يدل على كون الكل كذلك» . فإذا كانت كثرة الممارسة للباطل قد تورث الجزم ببطلان ما يخالفه فكيف لا تورث ما ذكره الغزالي هنا بقوله: «ربما حصل لك الإنس» وإذا وجب أن لا يعتد بالجزم الحاصل عن طول الممارسة فكيف يعتد باحتمال حصول الإنس؟ ولوكان هذا كافياً للتشكيك في البديهيات، وخشية أن تكون وهمية لثبب القدح في عامة البديهيات وطوي بساط العقل وحقت السفسطة، وقد تقدم في الباب الأول (٣) قولهم في الجواب عن شبهات القادحين في البديهيات: «ولا نشتغل بالجواب عنها لأن الأوليات مستغنية من أي يذب عنها، وليس يتطرف إلينا شك فيها بتلك الشبه التي نعلم أنها فاسدة قطعاً، وإن لم يتيقن عندنا وجه فاسدها» . أفلا يكفي مثبتي الأينية (٤) أن يجيبوا عما سماه الغزالي أدلة بمثل هذا؟


(١) ص (٦٤ - ٧٥ - ٧٣) .
(١) تقدم ص ٥٢.
(٢) ص ٤٥.
(٤) أي المؤمنين بجواب «أين الله» وأنه في السماء فوق العرش مباين للخلق. م ع

<<  <   >  >>