حضنها وتغذيتها بما يصلح لها، فإذا كبرت وقويت على تناول الحب والماء بأنفسهما أخذا يلجئانها إلى ذلك بالإعراض عن زقها، فإذا قويت على الطيران هجراها وطرداها كأنهما لا يعرفانها. فإذا تدبرت هذا الصنيع ونتائجه وجدته صواباً كله، ولعلك لو تتبعت أحوال الطير لوجدت ما هو ألطف من هذا وأدق وكذلك من تتبع أحوال النحل والنمل وجد أكثر من هذا وألطف.
فإن كان للحمام شعور بأن الائتلاف سبب البيض، وأن البيض يحتاج إلى ما ذكر فتخرج منه فراخ، إلى غير ذلك، فهذا هو الشعور الفطري، وإن لم يكن هناك شعور، وإنما هو انسياق إلى تلك الأفعال مع الجهل بما يرتاب عليها فتلك هي الهداية الفطرية. (١)
وعلى كل حال فلإصابة في ذلك أكثر من إصابة الإنسان في كثير مما يستدل عليه بعقله، ومن تدبر حال الإنسان وجد له نصيباً من ذلك في شأن حفظ حياته وبقاء نسله. نعم إنه اكتفى له في بعض الأمور بعقله لكن ذاك العقل العادي، فأما العقل التعمقي فلم يوكل إليه في الضروريات، فإذا أحاطت العناية الربانية الطير والبهائم والحشرات إلى تلك الدرجة وحاطت الإنسان أيضاً في حفظ حياته وبقاء نسله وغير ذلك، فما عسى أن يكون حالها في حياطة الإنسان فما إنما خلق لأجله؟
فإذا وجدنا للإنسان شيئاً من هذا القبيل في شأن وجود الله تبارك وتعالى، وعلوه على خلقه، وعلمه وقدرته، وغير ذلك من صفاته فمن الحق على العقل أن لا يستهين بذلك، زاعماً أنه قضية وأهمية، كيف وقد شهد له العقل والشرع كما يأتي.
وأما القضايا الضرورية والبديهية فقد اتفق علماء المعقول أنها رأس مال العقل، وأن النظر إنما يرجى منه حصول المقصود ببنائه عليها، استناده إليها.
(١) وهو ما يعبر عنه علماء الحياة بغريزة الفرد والجنس، وهي تسوق الحيوان سوقاً لا شعورياً إلى ما يحفظ نفسه ويبقى جنسه شاء أم أبى، والإنسان يشارك الحيوان في هذه الغرائز الحيوانية، ويزيد عليها بالعقل والفكر. م ع