بل قلَّ هذا النوعُ من التأليف بعد هؤلاء الحفّاظ؛ لقلّة الرواية والإسناد، وانشغال الناس بكتب الفلسفة والكلام.
إلى أن حلّ القرن الثامن الهجري، فقيَّظَ الله فيه من أحيا هذا العلم، وأعادَ الأمّةَ إلى سالف عهدها الزاهر، فظهرت فيه مصنّفاتٌ في العقائد عُنيت بالإسناد، مثل:"الأربعين في صفات رب العالمين"، للحافظ شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أحمد الذهبي الدمشقي (ت ٧٤٨ هـ)، صنّفه بأسانيده.
ثم سخَّرَ الله ﵎ حافظًا من حفَّاظ القرن الثامن وعلمائه، فصنّف في هذا الباب وتوسَّع، وهو الحافظ ابنُ المحبّ الصامت الدمشقي الصالحي الحنبلي، المولود بدمشق سنة (٧١٢ هـ)، والمتوفّى بها سنة (٧٨٩ هـ)، خرِّيجُ المدرسة الضيائية بدمشق، وممّن رسخ قدمُه في علم الحديث وجمعِ أسانيده والمرويّات فيه، فألّف كتابَه (صفات رب العالمين)، على مثل كتب الأولين المسندة، فجاء كتابًا واسعًا مستوفيًا لما ورد عن النبي ﷺ وصحابته رضوان الله عليهم وغيرهم في أبواب الصفات، أفنى فيه المصنّف عمره، وبثّ فيه أسانيده ومرويّاته، وحفظَ لنا كثيرًا من النصوص المفقودة من كتب المتقدِّمين.
وقد وصلتنا مسوّدةُ هذا الكتاب، ولم يصلنا غيرُها، كتبها مصنِّفُها بخطٍّ دقيق متراصّ، يصعبُ من أول وهلة فكُّه أو معرفة مبدئه من منتهاه، لهذا ظلَّت مخطوطتُه حبيسةً تنتظرُ من يُطلقُ عنانَها، وينشرُ كنوزَها.
فوفَّقَ الله ﷿ لنسخ الكتاب، وترتيبه، وإعدادِه؛ فهو كغيره من كتب أهل السنة أهلٌ لإفناء الأعمار، وبذل الحياة في خدمتها.
وقد استغرق نسخُه وتحقيقُه سنواتٍ أسألُ الله ﵎ أن لا يضيع فيها الأجر، وأن يتقبّل العمل ويجعله خالصًا لوجهه الكريم.