للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وعلى هذا حمل قوله تعالى: {ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة} [القصص: ٧٦]، المعنى: "أن العصبة تنوء بالمفاتح" (١).

ونظائر ذلك من كلام العرب أكثرُ من أن تحصى، مما تُوجِّهه العرب من خبر ما تخبر عنه إلى ما صاحَبَه، لظهور معنى ذلك عند سامعه، فتقول: اعرِض الحوضَ على الناقة، وإنما تعرض الناقة على الحوض، وما أشبه ذلك من كلامها (٢).

واعترض ابن قتيبة على هذا القول بأن قال: "لا يجوز لأحد أن يحكم بهذا على كتاب الله، لأن الشاعر يقلب اللفظ ويزيل الكلام عن الغلط، على طريق الضرورة للقافية، أو لاستقامة الوزن، والله تعالى لا يغلط ولا يضطر، وينبغي أن ينزه القرآن عنه؛ لأن الصحيح أن القلب لا يكون إلا في الشعر، أو إن جاء في الكلام فهو من القلة بحيث لا يقاس عليه" (٣).

قال الواحدي: " وقول الفراء صحيح وإن أنكره ابن قتيبة، موافق لمذاهب العرب في فنون مخاطباتها، فإنهم يفعلون الشيء للضرورة، ثم يصير وجها ومذهبا لهم في الكلام، حتى يجيزوه وإن لم تدع إليه ضرورة" (٤).

ثالثا: أن المعنى: مثل الكافر في دعاء آلهته التي يعبدها من دون الله كمثل راعي البهيمة يسمع صوتها ولا يفهمه، وهذا قول ابن زيد (٥).

رابعا: أن المعنى: " ومثل الذين كفروا في دعائهم آلهتهم التي لا تفقه دعاءَهم، كمثل الناعق بغنم لهُ من حيث لا تسمعُ صوتَه غنمُه، فلا تنتفع من نَعقِه بشيء، غير أنه في عَناء من دعاء ونداء، فكذلك الكافر في دعائه آلهته، إنما هو في عناء من دعائه إياها وندائه لها، ولا ينفعه شيء" (٦).

والقول الأول أولى بالصواب، وهو قول ابن عباس، وقد اختاره الإمام الطبري، إذ يقول: "وأولى التأويل عندي بالآية، التأويل الأول الذي قاله ابن عباس ومَن وافقه عليه. وهو أن معنى الآية: ومثل وَعظ الكافر وواعظه، كمثل الناعق بغنمه ونَعيقه، فإنه يسمع نَعقه ولا يعقل كلامه، على ما قد بينا قبل ... وإنما اخترنا هذا التأويل، لأن هذه الآية نزلت في اليهود، وإياهم عَنى الله تعالى ذكره بها، ولم تكن اليهود أهل أوثان يَعبدونها، ولا أهل أصنام يُعظمونها ويرجون نَفعها أو دَفع ضرها. ولا وجه - إذ كان ذلك كذلك - لتأويل من

تأوّل ذلك أنه بمعنى: مَثل الذين كفروا في ندائهم الآلهة ودُعائهم إياها. فإن قال قائل: وما دليلك على أنّ المقصود بهذه الآية اليهود؟ قيل: دليلنا على ذلك مَا قبلها من الآيات وما بعدها، فإنهم هم المعنيون به. فكان ما بينهما بأن يكون خبرًا عنهم، أحق وأولى من أن يكون خبرًا عن غيرهم، حتى تأتي الأدلة واضحةً بانصراف الخبر عنهم إلى غيرهم. هذا، مع ما ذكرنا من الأخبار عَمن ذكرنا عنه أنها فيهم نزلت، والرواية التي روينا عن ابن عباس أنّ الآية التي قبل هذه الآية نزلت فيهم، وبما قُلنا من أن هذه الآية معنيّ بها اليهود كان عطاء يقول: حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال لي عطاء في هذه الآية: هم اليهود الذين أنزل الله فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا} إلى قوله: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} [سورة البقرة: ١٧٤ - ١٧٥] " (٧).


(١) معاني القرآن للفراء: ١/ ٩٩ - ١٠٠، وتفسير الثعلبي: ٢/ ٤٢، والتفسير البسيط: ٣/ ٤٩٢.
(٢) انظر: تفسير الطبري: ٣/ ٣١٠ - ٣١٢، ومعاني القران للفراء: ١/ ٩٩.
(٣) تأويل مشكل القرآن: ٢٠٠، وانظر: البحر المحيط: ١/ ٤٨٢، والتفسير البسيط: ٣/ ٤٩٢.
(٤) التفسير البسيط: ٣/ ٤٩٣.
(٥) انظر: تفسير الطبري (٢٤٦٢): ص ٣/ ٣١٣.
(٦) تفسير الطبري: ٣/ ٣١٣، وانظر: مفاتيح الغيب: ٥/ ١٩٠.
(٧) تفسير الطبري: ٣/ ٣١٣ - ٣١٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>