للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال الشوكاني: " عدد الطلاق الذي تثبت فيه الرجعة مرتان، وقد اختلف أهل العلم في إرسال الثلاث دفعة واحدة هل يقع ثلاثا أو واحدة فقط فذهب إلى الأول الجمهور وذهب إلى الثاني من عداهم وهو الحق وقد قررته في مؤلفاتي تقريرا بالغا وأفردته برسالة مستقلة" (١).

وقد ذكر العلماء بأن الطلاق على قسمين من حيث الصيغة: الصريح والكناية (٢) (٣).


(١) فتح القدير: ١/ ٢٣٨.
(٢) إن المتأمل في حال المجتمعات الإسلامية يلحظ تزايداً مطردا في نسب الطلاق، حتى وصلت النسب إلى مستوً لا يمكن تقبله في بعض البلدان الإسلامية، ولعل من جملة الأسباب التي أدت إلى ذلك جهل كثير من الناس بأحكام الطلاق، ومتى يقع الطلاق، ومتى لا يقع، وألفاظه إلى غير ذلك، وبناء عليه كان لا بد من إطلالة فقهية على بعض أحكام الطلاق، ومن تلك الأحكام معرفة أنواع الطلاق وأقسامه، ويمكن أن يقسم الطلاق إلى أقسام عدة باعتبارات عدة، فنقول:
أولا: أقسام الطلاق من حيث الصفة (انظر: المغني: (٧/ ٢٧٨، وتحفة الفقهاء، السمرقندي: ٢/ ١٧١ - ١٧٥):
١ - الطلاق السني: وهو أن يطلق الرجل المرأة فى طهر لم يجامعها فيه طلقة واحدة ويتركها حتى تنقضي عدتها فلا يطلقها طلقة أخرى وهي لا زالت في العدة، قال ابن قدامة: "ولا خلاف في أنه إذا طلقها في طهر لم يصبها فيه , ثم تركها حتى تنقضي عدتها , أنه مصيب للسنة , مطلق للعدة التي أمر الله بها. قاله ابن عبد البر , وابن المنذر"١.
٢ - الطلاق البدعي: وهو أن يطلق الرجل امرأته وهي حائض أو نفساء، أو فى طهر قد جامعها فيه, أو يطلقها ثلاثاً في كلمة واحدة فيقول: أنت طالق ثلاثاً، أو ثلاثاً في كلمات متفرقة فيقول: أنت طالق، طالق، طالق.
والطلاق البدعي كالسني عند عامة أهل العلم من حيث وقوعه، ومن أهل العلم من لا يوقعه، وليس المقام هنا مقام تفصيل لذلك، إذ المقصود بيان أقسام الطلاق كما تقدم.
ثانيا: أقسام الطلاق من حيث الرجعة وعدمها:
الطلاق الرجعى: وهو ما يملك معه الزوج حق مراجعة مطلقته في عدتها من غير استئناف عقد جديد، وهو ما كان دون الثلاث في المدخول بها، وبدون عوض، فيثبت له حق الرجعة ما دامت في عدتها، ويكفيه أن يقول لها: "لقد راجعتك".
الطلاق البائن: وهو الذى لا يملك المطلق معه حق الرجعة، ويقع الطلاق بائناً في صور هي:
١ - أن يطلقها طلاقاً رجعياً، فلا يراجعها حتى تنقضي عدتها.
٢ - أن يطلقها على مال تدفعه مخالعة.
٣ - أن يطلقها قبل الدخول بها.
٤ - أن يطلقها ثلاثاً في كلمة واحدة، أو متفرقات في المجلس، أو يطلقها ثالثة بعد اثنتين قبلها؛ فتبين منه بينونة كبرى، فلا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره.
ثالثا: أقسام الطلاق من حيث الصيغة:
١ - الطلاق الصريح: وهو ما لا يحتاج المطلق معه إلى نية الطلاق، بل يكفي فيه لفظ الطلاق الصريح كأن يقول: أنت طالق، أو أنت مطلقة، أو قد طلقتك، أو الطلاق له لازم، وما عدا ذلك من ألفاظ الطلاق مما يستعمل فيه فهو كناية، وبهذا قال أبو حنيفة. وقال القاضي أبو الحسن: صريح ألفاظ الطلاق كثيرة، وبعضها أبين من بعض: الطلاق والسراح والفراق والحرام والخلية والبرية. وقال الشافعي: الصريح ثلاثة ألفاظ، وهو ما ورد به القرآن من لفظ الطلاق والسراح والفراق، قال الله تعالى: {أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: ٢] وقال: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} وقال: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: ١]. وقد قال عمر بن عبدالعزيز: "لو كان الطلاق ألفا ما أبقت البتة منه شيئا، فمن قال: البتة، فقد رمى الغاية القصوى". (موطأ مالك ١١٧٠: ١/ ٤١٣)، وقد روي عن علي قال: " الْخَلِيَّةُ وَالْبَرِيَّةُ وَالْبَتَّةُ وَالْبَائِنُ وَالْحَرَامُ إِذَا نَوَى فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الثَّلَاثِ". (كتاب السنن الكبرى: ٧/ ٣٤٤) من حديث الشعبي.
٢ - الطلاق الكناية: وهو ما يحتاج فيه إلى نية الطلاق, إذ اللفظ غير صريح فى الدلالة عليه كأن يقول: "الحقي بأهلك"، أو غير ذلك، فهنا لا بد في وقوع الطلاق من نية الطلاق، فلو قال لم أنو بهذا اللفظ الطلاق قبل منه ولم يقع طلاقا.
والفرق بينهما أن الصريح لا يفتقر إلى نية، بل بمجرد اللفظ يقع الطلاق، والكناية تفتقر إلى نية، والحجة لمن قال: إن الحرام والخلية والبرية من صريح الطلاق كثرة استعمالها في الطلاق حتى عرفت به، فصارت بينة واضحة في إيقاع الطلاق، كالغائط الذي وضع للمطمئن من الأرض، ثم استعمل على وجه المجاز في إتيان قضاء الحاجة، فكان فيه أبين وأظهر وأشهر منه فيما وضع له، وكذلك في مسألتنا مثله.
وقد جاء في " حاشية البجيرمي على الخطيب " (٣/ ٤٩١): " قَوْلُهُ: (وَهُوَ مَا يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ وَغَيْرَهُ) وَضَابِطُ ذَلِكَ: أَنْ يَكُونَ لِلَّفْظِ إشْعَارٌ قَرِيبٌ بِالْفُرْقَةِ، وَلَمْ يَشِعْ اسْتِعْمَالُهُ فِيهِ شَرْعًا وَلَا عُرْفًا " انتهى.
وجاء في " الموسوعة الفقهية " (٢٩/ ٢٦): " كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْكِنَائِيَّ فِي الطَّلاقِ هُوَ: مَا لَمْ يُوضَعِ اللَّفْظُ لَهُ، وَاحْتَمَلَهُ، وَغَيْرَهُ، فَإِذَا لَمْ يَحْتَمِلْهُ أَصْلا لَمْ يَكُنْ كِنَايَةً، وَكَانَ لَغْوًا لَمْ يَقَعْ بِهِ شَيْءٌ " انتهى. وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "كل ما يحتمل الفراق، فهو كناية " انتهى من " الشرح الممتع " (١٣/ ٧٠).
ولا يقع الطلاق بألفاظ الكنايات، إلا بشرطين: أن ينوي الشخص الطلاق، وأن يأتي بلفظ دال عليه، فلو تلفظ الشخص بلفظ لا يدل على الطلاق لا شرعاً ولا عرفاً، وكانت نيته من ذلك اللفظ: الطلاق، فإنه لا يقع طلاقه
قال ابن القيم رحمه الله: " وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِهِ حَتَّى يَنْوِيَهُ، وَيَأْتِيَ بِلَفْظٍ دَالٍّ عَلَيْهِ، فَلَوِ انْفَرَدَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ عَنِ الْآخَرِ، لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ، وَلَا الْعِتَاقُ. وَتَقْسِيمُ الْأَلْفَاظِ إِلَى صَرِيحٍ وَكِنَايَةٍ، وَإِنْ كَانَ تَقْسِيمًا صَحِيحًا فِي أَصْلِ الْوَضْعِ، لَكِنْ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ، فَلَيْسَ حُكْمًا ثَابِتًا لِلَّفْظِ لِذَاتِهِ، فَرُبَّ لَفْظٍ صَرِيحٍ عِنْدَ قَوْمٍ، كِنَايَةٌ عِنْدَ آخَرِينَ، أَوْ صَرِيحٌ فِي زَمَانٍ أَوْ مَكَانٍ، كِنَايَةٌ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ. وَالْوَاقِعُ شَاهِدٌ بِذَلِكَ، فَهَذَا لَفْظُ السَّرَاحِ لَا يَكَادُ أَحَدٌ يَسْتَعْمِلُهُ فِي الطَّلَاقِ، لَا صَرِيحًا وَلَا كِنَايَةً، فَلَا يَسُوغُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ مَنْ تَكَلَّمَ بِهِ، لَزِمَهُ طَلَاقُ امْرَأَتِهِ، نَوَاهُ أَوْ لَمْ يَنْوِهِ ... "انتهى من " زاد المعاد " (٥/ ٢٩١).
وقد نقل عن الإمام أحمد رحمه الله ما يفيد أن الدعاء الذي يدل على الطلاق يكون من ألفاظ الطلاق.
فإنه سئل عمن قال لزوجته: فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنِي وَبَيْنَك فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فقَالَ: " إنْ كَانَ يُرِيدُ أنه دُعَاءً يَدْعُو بِهِ فَأَرْجُو أَنَّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ ". " مسائل أبي داود للإمام أحمد" (ص ٢٣٩)، "الإنصاف" (٨/ ٤٧٨).
وقد علق عليه ابن مفلح في " الفروع" (٩/ ٣٨) قائلا: "فَلَمْ يَجْعَلْهُ شَيْئًا مَعَ نِيَّةِ الدُّعَاءِ، فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ شَيْءٌ مَعَ نِيَّةِ الطَّلَاقِ، أَوْ الْإِطْلَاقِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْفِرَاقَ صَرِيحٌ، أَوْ لِلْقَرِينَةِ".
ثم ذكر ما يشبه هذه المسألة ثم قال: "فَهَذِهِ الْمَسَائِلُ الثَّلَاثُ الْحُكْمُ فِيهَا سَوَاءٌ، وَظَهَرَ أَنَّ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ قَوْلَيْنِ: هَلْ يَعْمَلُ بِالْإِطْلَاقِ لِلْقَرِينَةِ، وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى النِّيَّةِ، أَمْ تُعْتَبَرُ النِّيَّةُ؟ " انتهى.
ومعنى هذا: أن الدعاء بـ "فرق الله بين وبينك في الدنيا والآخرة" هو من كنايات الطلاق، وقد نقل عن الإمام أحمد روايتان في كنايات الطلاق، وأن القول الراجح هو أن كنايات الطلاق لا يقع بها الطلاق إلا بالنية، ولا تكفي القرينة، والله تعالى أعلم.
رابعا: أقسام الطلاق من حيث التنجيز والتعليق:
١ - الطلاق المنجز: هو ما تطلق به الزوجة فى الحال، كقوله: "أنت طالق"، فلا يعلق وقوع الطلاق على أمر ما.
٢ - الطلاق المعلق: هو ما رتب وقوع الطلاق فيه على حصول أمر في المستقبل، بأداة من أدوات الشرط مثل إن، وإذا، ومتى، ولو ونحوها، كأن يقول الرجل لزوجته: إن دخلت دار فلان فأنت طالق، أو إذا سافرت إلى بلدك فأنت طالق، أو إن خرجت السوق فأنتي طالق، أو متى زرت فلانة فأنت طالق، فلا يقع الطلاق إلى عند حصول ذلك الأمر.
(٣) وقد أُثير فى هذه الأيام فتوى شاذة تمس الحرمات التى نهى الله عن قربها والأبضاع التي جاء الدين الحنيف بصيانتها وحفظها. وظهر بيننا من تجرّء على الفتيا فى مسائل الطلاق , وركب ظهور العواصف, ظناً منه أن العاصفة سترفعه ونسى انها قاصفة تُردي به فى واد سحيق , فنفث الفتاوى الشاذة بلا علم واجتهد مع النص واستقرار الأحكام وأظهر كل عوراء وعرجا من شاذ الفتاوى ومستنكر الأقوال. وراح يبعث فى أقوال مهجورة ضررها أكبر من نفعها.
وسوف نتناول في فوائد الآية: الرد على من أفتى بأن الطلاق بالقول الصريح لا يقع إلا عند توثيقه لدى الجهات المختصة وفى حضور الشهود. والله المستعان.

<<  <  ج: ص:  >  >>