للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد "احتجوا لقولهم ذلك بعموم الآية، وأنه غير جائزة إحالة ظاهر عام إلى باطن خاص إلا بحجة يجب التسليم لهاقالوا: ولا حجة يجب التسليم لها بأن الآية مراد بها بعض الفدية. دون بعض من أصل أو قياس، فهي على ظاهرها وعمومها" (١).

والقول الثاني هو الأفرب إلى الصواب، واختاره الشوكاني قائلا: "وظاهر القرآن الجواز، لعدم تقييده بمقدار معين وبهذا قال مالك والشافعي وأبو ثور وروى مثل ذلك عن جماعة من الصحابة والتابعين" (٢).

وقد اختلف العلماء في نسخها، على قولين (٣):

أحدهما: أن الخلع منسوخ بقوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوجٍ وَآتَيتُم إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيئاً} [النساء: ٢٠]، وهذا قول بكر بن عبدالله (٤).

قال الشوكاني: " وهو قول خارج عن الإجماع ولا تنافي بين الإثنين" (٥).

والثاني: أن حكمها ثابت في جواز الخلع. وهذا قول الجمهور.

وقد روى أيوب، عن كثير مولى سَمُرة "أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أُتِيَ بامرأة ناشزة، فأمر بها إلى بيت كثير، فحبسها ثلاثاً، ثم دعاها فقال: كيف وجدت مكانك؟ قالت: ما وجدتُ راحة منذ كنت إلا هذه الليالي التي حبستني، فقال لزوجها: اخلعها ولو من قرطها" (٦).

والراجح هو قول الجمهور، فـ"إذا خيف من الرجل والمرأة أن لا يقيما حدود الله - على سبيل ما قدمنا البيان عنه - فلا حرج عليهما فيما افتدت به المرأة نفسها من زوجها، من قليل ما تملكه وكثيره مما يجوز للمسلمين أن يملكوه، وإن أتى ذلك على جميع ملكها. لأن الله تعالى ذكره لم يخص ما أباح لهما من ذلك على حد لا يجاوز، بل أطلق ذلك في كل ما افتدت به. غير أني أختار للرجل استحبابا لا تحتيما إذا تبين من امرأته أن افتداءها منه لغير معصية لله، بل خوفا منها على دينها أن يفارقها بغير فدية ولا جعل. فإن شحت نفسه بذلك، فلا يبلغ بما يأخذ منها جميع ما آتاها" (٧).

قال الطبري: " فأما ما قاله بكر بن عبد الله، من أن هذا الحكم في جميع الآية منسوخ بقوله: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} فقول لا معنى له، فنتشاغل بالإبانة عن خطئه لمعنيين:

أحدهما: إجماع الجميع من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من المسلمين، على تخطئته وإجازة أخذ الفدية من المفتدية نفسها لزوجها، وفي ذلك الكفاية عن الاستشهاد على خطئه بغيره.

والآخر: أن الآية التي في " سورة النساء " إنما حرم الله فيها على زوج المرأة أن يأخذ منها شيئا مما آتاها، بأن أراد الرجل استبدال زوج بزوج من غير أن يكون هنالك خوف من المسلمين عليهما مقام أحدهما


(١) تفسير الطبري: ٤/ ٥٧٥.
(٢) فتح القدير: ١/ ٢٣٩.
(٣) انظر: النكت والعيون: ١/ ٢٩٦.
(٤) انظر: تفسير الطبري (٤٨٧٧)، و (٤٨٧٩): ص ٤/ ٥٨٠، وانظر الأثران في: الناسخ والمنسوخ لأبي جعفر النحاس: ٦٨ وأحكام القرآن للجصاص ١: ٣٩٢ والقرطبي: ٣: ١٣٩.
(٥) فتح القدير: ١/ ٢٣٩.
(٦) كتاب السنن الكبرى: ٧/ ٣١٥. وفي مصنف عبدالرزاق (١١٨٥١): ٦/ ٥٠٥: " اخْلَعْهَا وَيْحَكَ وَلَوْ مِنْ قُرْطِهَا".
(٧) تفسير الطبري: ٤/ ٥٨٠ - ٥٨١.

<<  <  ج: ص:  >  >>