للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

على صاحبه أن لا يقيما حدود الله، ولا نشوز من المرأة على الرجل. وإذا كان الأمر كذلك، فقد ثبت أن أخذ الزوج من امرأته مالا على وجه الإكراه لها والإضرار بها حتى تعطيه شيئا من مالها على فراقها حرام، ولو كان ذلك حبة فضة فصاعدا، وأما الآية التي في " سورة البقرة " فإنها إنما دلت على إباحة الله تعالى ذكره له أخذ الفدية منها في حال الخوف عليهما أن لا يقيما حدود الله بنشوز المرأة، وطلبها فراق الرجل، ورغبته فيها. فالأمر الذي أذن به للزوج في أخذ الفدية من المرأة في " سورة البقرة " ضد الأمر الذي نهى من أجله عن أخذ الفدية في " سورة النساء "، كما الحظر في " سورة النساء "، غير الإطلاق والإباحة في " سورة البقرة "، فإنما يجوز في الحكمين أن يقال أحدهما ناسخ إذا اتفقت معاني المحكوم فيه، ثم خولف بين الأحكام فيه باختلاف الأوقات والأزمنة، وأما اختلاف الأحكام باختلاف معاني المحكوم فيه في حال واحدة ووقت واحد، فذلك هو الحكمة البالغة، والمفهوم في العقل والفطرة، وهو من الناسخ والمنسوخ بمعزل" (١).

وقد زعم الفراء أن في قوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: ٢٢٩]، وجهان (٢):

أحدهما: أن يكون مرادا به: فلا جناح على الرجل فيما افتدت به المرأة دون المرأة، وإن كانا قد ذكرا جميعا كما قال في " سورة الرحمن ": {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: ٢٢] وهما من الملح لا من العذب، قال: ومثله: {فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا} [الكهف: ٦١]، وإنما الناسي صاحب موسى وحده، ومثله في الكلام أن تقول: " عندي دابتان أركبهما وأستقي عليهما "، وإنما تركب إحداهما، وتستقي على الأخرى، وهذا من سعة العربية التي يحتج بسعتها في الكلام.

والوجه الآخر: أن يشتركا جميعا في أن لا يكون عليهما جناح، إذ كانت تعطي ما قد نفي عن الزوج فيه الإثم. اشتركت فيه، لأنها إذا أعطت ما يطرح فيه المأثم، احتاجت إلى مثل ذلك.

والقولان فيهما نظر، وقد اعترض عليهما الطبري في تفسيره (٣).

قوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ الله فَلا تَعْتَدُوهَا} [البقرة: ٢٢٩]، أي: "تلك شرائعه فَلا تتجاوزوها بالمخالفة والرفض" (٤).

قال الشوكاني: " أي أحكام النكاح والفراق المذكورة هي حدود الله التي أمرتم بامتثالها فلا تعتدوها بالمخالفة لها" (٥).

قال الصابوني: أي "هذه الأحكام العظيمة من الطلاق والرجعة والخلع وغيرها هي شرائع الله وأحكامه فلا تخالفوها ولا تتجاوزوها إِلى غيرها ممّا لم يشرعه الله" (٦).

قال السعدي: " {حُدُودُ اللَّهِ} أي، أحكامه التي شرعها لكم، وأمر بالوقوف معها" (٧).


(١) تفسير الطبري: ٤/ ٥٨١ - ٥٨٢.
(٢) انظر: معاني القرآن ١/ ١٤٧ - ١٤٨. ونقله الطبري في تفسيره: ٤/ ٥٧١ - ٥٧٢.
(٣) اعترض الطبري على الوجهين اللتين ذكرهما الفراء قائلا: " فلم يصب الصواب في واحد من الوجهين، ولا في احتجاجه فيما احتج به من قوله: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ}، فأما قوله: {فلا جناح عليهما} فقد بينا وجه صوابه، وسنبين وجه قوله: " يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان " في موضعه إذا أتينا عليه إن شاء الله تعالى. وإنما خطأنا قوله ذلك، لأن الله تعالى ذكره قد أخبر عن وضعه الحرج عن الزوجين إذا افتدت المرأة من زوجها على ما أذن، وأخبر عن البحرين أن منهما يخرج اللؤلؤ والمرجان، فأضاف إلى اثنين. فلو جاز لقائل أن يقول: " إنما أريد به الخبر عن أحدهما، فيما لم يكن مستحيلا أن يكون عنهما "، جاز في كل خبر كان عن اثنين - غير مستحيلة صحته أن يكون عنهما - أن يقال: " إنما هو خبر عن أحدهما ". وذلك قلب المفهوم من كلام الناس والمعروف من استعمالهم في مخاطباتهم، وغير جائز حمل كتاب الله تعالى ووحيه جل ذكره على الشواذ من الكلام وله في المفهوم الجاري بين الناس وجه صحيح موجود". (تفسير الطبري: ٤/ ٥٧٢ - ٥٧٣).
(٤) انظر: محاسن التأويل: ٢/ ١٣٨.
(٥) فتح القدير: ١/ ٢٣٩.
(٦) صفوة التفاسير: ١/ ١٣١.
(٧) تفسير السعدي: ١/ ١٠٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>